كرم الله الإنسان منذ خلقه حيث ولد على الفطرة وأعلى الباري شأنه فرزقه العقل ليكون أداته في العلو بحياته ويبصر من خلاله الخير من الشر ودعاه للعلم ليكون طريقه نحو الأمان والنجاح وبهذا تهيأ ابن آدم ليكون قادرا على حمل الأمانة والقيام بلوازمها فصار مؤهلا ليكون خليفة الله في الأرض يعمرها بالإيمان ويشيد بنيانها بالإنجاز مستعينا بما أوتي من فطنة وكياسة وفكر نير أتاح له صنع المعجزات وإشادة الحضارات، وقد جاءت الديانات السماوية وخاتمتها الإسلام بما يحفظ للإنسان ما أنعم الله عليه به من كرامة تصون بدنه وعقله وتطمئن بها نفسه وتبقي له صحته وحواسه يتمتع بها في أوج أحوالها في كل مراحل عمره مكفولا من قبل غيره قبل رشده ومسؤولا عن نفسه بعد رشده، فالمولود له حق الحضانة والرضاعة والنسب وحسن اختيار الاسم، والطفل له حق التربية والتعليم والوقاية من المثيرات الجنسية حتى في الأسرة بالتفريق بين الذكر والأنثى في المضاجع، والشاب يؤمر بالزواج ليبدأ حياة الاستقرار والإنتاج والمشاركة في صنع المستقبل المشرق، والرجل والمرأة كل له ما يحفظ كينونته الطبيعية التي من خلالها يستطيع أن يؤدي دوره ويقوم بعمله مشاركا في بناء الحياة، والأسرة شيدت لها أسوار حمايتها من أي ضرر يقوض تماسكها أو يخل بإحدى لبناتها، والمجتمع حف بأطواق النجاة ودعم بأساسات القوة والوحدة التي تبقيه في مأمن من أن تغتال أحد أفراده غائلة أو تتخلل حصونه جائحة فكان الإنسان منعما في وهاد من دينه حتى طرأ على البشرية نزغات شياطينها فافترستها وحوشها من حروب ونفوس شريرة أملت عليها استعباد الإنسان لأخيه الإنسان والاتجار به واسترقاقه وتسخيره في مراد الأقوياء فنشأ الرق وأقيمت أسواقه على سلع جديدة من الضعفاء الدين هيمنت عليهم القوة والسخرة واستغلال حاجات الناس وظروفهم من قبل فاقدي الإحساس واستمر الوضع على ما كان شائعا من استرقاق الإنسان للإنسان حتى جاء الإسلام فإذا هو أمام طامة كبرى تستعبد فيها البشرية وأكبر عبيدها ومعبوداتها هده الأصنام والساجدين لها فكان التدرج في محو السيئات فبدأ بالألوهية فنقاها في أفئدة الناس ثم ثنى بالإنسانية فأخذها بحسن طريقة من العبودية للأحجار للعبودية للواحد القهار وحتى لا يعود الشخص للإشراك بالله دعي لفداء نفسه مراعاة للعرف والحقوق الخاصة وتأليفا للقلوب وحتى لا تتأثر مصالح الناس دفعة واحدة. ولما اضمحلت الإنسانية وكشرت المادية عن أنيابها عاد الرق كما كان فقبل مائة وخمسين سنة تصدرت أسبانيا وإنجلترا ثم أمريكا سيادة تجارة الرقيق فكانت السفن تجلب الآلاف من أفريقيا وشرق آسيا إلى أوروبا وأمريكا، إذ قدر عدد الرقيق الذين جلبوا إلى أمريكا من أفريقا بخمسة عشر مليون رقيق عملوا في الزراعة ومصانع الفحم وتعبيد الطرق وحفر القنوات ولقد قامت أمريكا على هدر الكرامة الإنسانية فقتلت واستعبدت الإنسان لتحقق لنفسها في العالم مكان فالهنود الحمر أبيدوا واستولي على أرضهم وسرقت كنوزها والإنسان الأفريقي استعبد لتنهض من تحت أقدامه وعلى يديه الحضارة المادية، وبتطور المدنية والإحساس بالخجل مما كان داميا على الوجه يصبح اليوم استعباد الإنسان وصمة عار على ممتهنها وأمرا مخالفا للفطرة إذ كيف يتم استبعاد الإنسان لأخيه الإنسان فتعود الحضارة إلى سابق عهدها وتشرع في ترسيخ القيم التي تحظر الرق وبيعه سواء في السلم وفي الحرب وتطبق أخلاقيات تمنع استرقاق الأسرى أو إجبارهم على أعمال قاسية ويصبح الاستعباد جريمة حرب يعاقب عليها القانون. لكن مسمى العبودية تحول إلى مسمى مادي يناسب العصر فأطلقوا عليه اسم : ( الاتجار بالبشر ) وهو يعني: استغلال ظروف الشخص أيا كانت لتحصيل مكاسب مهما كانت، فصار هو الاسم المطور الحديث للعبيد والإماء في السابق. وما كان لهذا الاسم أن يظهر لولا شيوع تجارة الرقيق التي عادت هذه الأيام بشكل أوسع وطرق متعددة حتى صار الإنسان يباع ويشرى ويستورد ويصدر كالبضائع حتى وهو في وطنه وأصبحت للبشر العبيد أسواقهم المعروفة سواء تحت مظلة الديمقراطية الأمريكية أو تحت سياط الحكومات المستبدة أو أمام شراهة المادة العمياء وخضعت أقيام الإنسان للهبوط والارتفاع تبعا للبورصة العالمية. [email protected]