يزداد إيماني يوما بعد يوم أن فكرة «الإنسانية» هي فكرة حديثة، وربما أحدث مما نتصور. والمقصود بالإنسانية هو الإيمان بالإنسان بوصفه كينونة حرة ومستقلة ومحترمة، بصرف النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو الحضاري أو اللغوي. قديما، وبسبب تباعد الثقافات وتعصب أهلها لها، لم يكن التواصل الحضاري والحوار الثقافي بين الأمم الشعوب تواصلا حقيقيا قادرا على تأسيس فكرة «الإنسانية»، وبالتالي خاضعا لها كمرجعية معيارية لضبط الحوار والتفاعل. ولا نلقي باللائمة على القدماء، فقد كانت ظروفهم تحول دون ذلك. ولكنني ألوم، اليوم، من يعتمد في إرساء قواعد الحوار الحضاري بين الأمم على مبادئ الثقافة القديمة. نشأت فكرة «الإنسانية» في أوروبا، بوصفها المنطقة الجغرافية والحضارية التي دشنت مشروع التقدم والنهوض، وبالأحرى: دشنت العالم الجديد. ولكنها مع ذلك كانت ملتبسة وغامضة ومثيرة. فنشوء فكرة الإنسانية (الإيمان بالإنسان، أيا كانت هويته، وبحقوقه وحريته واستقلاله) في تلك الحضارة ترافق مع التوسع الجغرافي والاستعماري ومع الكشوفات العلمية والاختراعات التنقية. وسأتوقف الآن عند دور الرحالة والمستكشفين الجغرافيين في ظهور العالم الجديد. قلنا إن بداية النهضة الأوروبية كانت ملتبسة، والمراد أنها لم تكن نزيهة كما نتصورها اليوم. ففي الدراسات الاستشراقية الحديثة وفي النقد ما بعد الاستعماري ثمة حقائق تدل بوضوح على أن البدايات الأوروبية لم تكن مثالية وحيادية و «بيضاء». وقد أوضح إدوارد سعيد ( وهو دارس للاستشراق ) أن أدب الرحلات الجغرافية أسهم بدور مهم في تشكيل الوعي الثقافي الغربي إزاء الشرق، والذي انعكس بدوره على الأدب والفن والعلم والسياسة (راجع: البازعي والرويلي، دليل الناقد الأدبي، مادة: الاستشراق). الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال هو تلك «السيرة البيضاء» التي تتصدر أي حديث تعليمي أو علمي أو إعلامي عن مشاهير الرحالة: ماجلان، دي جاما، كولومبوس،.. وحتى، عربيا، ابن فضلان، وابن ماجد، وابن بطوطة. فالرحالة الأوروبيون كانوا ولا يزالون يقدمون بوصفهم من محبي «الإنسانية» وممن خدموا البشر. ولكن التمحيص والتدقيق في السيرة التاريخية يظهرها غير بيضاء تماما، أي أنها لا تدل على أن أصحابها قدموا ما قدموا من أجل عيون «الإنسانية». فماجلان، الرحالة البرتغالي الذي خدم البلاط الأسباني، كان مبشرا كاثوليكيا متعصبا، وقد خدع سكان «جوام» الفلبينية وأدخل المسلحين في السفن التي استقبلها أهل جوام بالترحاب. وكان هدفه فرض سيطرته على الجزيرة ونشر المسيحية. وأما كولومبوس مكتشف أمريكا فلم يكن أقل من صاحبه تعصبا، بل إنه في محاولته الاستكشافية أراد طريقا بحريا يستغني به عن الطريق الذي يمر ببلاد «المحمديين» الوثنيين!؛ وهو يقصد البلاد الواقعة تحت سيطرة الخلافة التركية. كانت رحلته تجارية وتبشيرية في آن. وقل مثل ذلك على فاسكو دي غاما الذي تحرك بناء على طلب ملك البرتغال من أجل التبشير وفتح الأسواق الآسيوية عن طريق رأس الرجاء الصالح الذي لا يمر ببلاد المحمديين. ولا نخطئ الظن إذا قلنا إن رحالة العرب كانوا، أيضا، يخدمون مصالح شخصية وسياسية وعقدية. فابن فضلان موفد سياسي ديني من قبل خليفة بغداد قبل أن يكون رحالة، وابن ماجد (وهو من رأس الخيمة، جلفار قديما) يسعى وراء مصالحه الشخصية التي جعلته لا يرعوي في مساعدة «الكافر» فاسكو دي جاما على اكتشاف الرجاء الصالح وفتح بوابة شرق آسيا للاستعمار الأوروبي. أما ابن بطوطة المغربي وإن كانت أغلب رحلاته داخلية، أي في بلاد المسلمين، إلا أن هاجس التبشير بالمذهب الصوفي كان حاضرا لديه من خلال بناء المدارس والزوايا والربط. إن هؤلاء الرحالة بشر، لهم رغباتهم ومصالحهم الشخصية والعمومية، ولكن على التاريخ الحديث اليوم أن يكون حذرا في «تبييض» صفحات هؤلاء. كما يفعل دائما إزاء موضوع آخر يشغل بالي كثيرا، ألا وهو موضوع «الآثار» التي خلفها البشر قبل آلاف السنين، كالأهرامات والمعابد الضخمة والجسور العظيمة ونحوها. إن حجرة واحدة من حجارة الأهرامات المرصوصة بإحكام، وقرميدا من قراميد إحدى الكاتدرائيات المذهلة تستبطن في أحشائها آلام وعذابات البشر، كما يستبطن الصوان النار في جوفه. ويجب علينا، إنسانيا وأخلاقيا، ألا نتجاهل هذه الآلام ونحن نقف مشدوهين أمام عظمة هذه الآثار.. إن هذه الهياكل الضخمة لم تبن خدمة للإنسانية بل لرغبات شخصية وفردية. والمفارقة أن هذه الآثار تعتبر اليوم، وتبعا لمنظمة اليونسكو، تراثا «إنسانيا» عاما، على الرغم من كل هذا العناء والعذاب البشري. إنني لا أدعو لهدمها، ولكن لفضحها من خلال التوقف عن «تبييض التاريخ»، ولو كان الأمر بيدي لأمرت بوضع لوحة بيانات أو بروشورا أمام كل «أثر» يتضمن عددا تقريبيا للضحايا الذين سقطوا وهلكوا بدون رحمة تحت الحجارة الضخمة وسياط الجلادين، ولطلبت من الزائرين والسائحين الوقوف برهة من الزمن حدادا عليهم، كما يفعلون إزاء آثار «الهولوكوست»، وحسن ما يفعلون. إن مفهوم «الإنسانية» حديث وحديث جدا، لدرجة أنه لا يزال في طور النمو!. ويمكن الاستشهاد بالجهود العظيمة التي تقوم بها الدراسات الفلسفية والثقافية الحديثة وبحوث ما بعد الاستعمار، والتي تصب في توكيد فكرة الإنسانية من خلال فضح التمركز الإثني (العرقي) والتعصب الثقافي والديني والحضاري. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة