أستأذنكم اليوم في التعبير عن حزن شخصي بحت فقد أبلغوني أن عم عبد الله قد مات وعم عبد الله كما أعتدت أن أناديه (ساعي ) كان يعمل معنا عندما كنت أعمل في ( كلية الطب) ورحل دون أن أودعه .. قد لايعرف القارئ من هو عم عبد الله وقد يقرأ سطرا أو سطرين ويطوي الصفحة باحثا عن موضوع يهمه أو يشغل باله. ولكنني أدعوك عزيزي القارئ لأن نتوقف معا قليلا لنقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة فقد رحل عن عالمنا رجل بسيط اسمه (عبد الله) فهو مثل كل السعوديين البسطاء عاش حياته ولم يبتغ سوى الستر ولم يترك بعد رحيله سوى محبة الناس الذين عرفوه عن قرب وأنا منهم .. كان عم عبد الله رجل قروي لم يكن يقرأ ولايكتب ولكنه كان رجلا مسالما يتردد في أن يطأ الأرض أو لايطأها خشية أن يؤذي حبات التراب .. نحيف دئما يتحرك في حيوية وسرعة كأنه يجري من شيء ما!! له ابتسامة مشعة كان حصيفا وكانت له نصائح عفوية زكية كان يقول لي قابل الشر بالخير يجازيك الله .. حين مرضت بجلطة الرئة بحث عن رقم تلفوني في أمريكا وبمساعدة مقربين جاءني صوته ( أبي أطمن عليك يادكتور ).. عم عبد الله يمثل لي شريطا طويلا من أحداث العمر وصعب على الإنسان أن يغسل عشرة عمر برمشة عين، كان عندما يراني أمارس الانفعال المكتوم يدخل علي بفنجان نعناع ساخن ويقول لي بلكنته البدوية المحببة (عندك ورعان خلك من الكلام الفاضي) عندما رآني ابني فراس أبكي رحيله لمحته يمسح عينيه المغرورقتين بالدموع بكم قميصه ويقول لي (عم عبد الله كان يحبك).. كان رقيقا وحساسا ومعتزا بذاته إلى أبعد الحدود، كريم الأصل عزيز النفس لماح يمتلك فطنة وفطرة وخبرة في شتى شؤون الحياة كان هادئا مثل نبع صغير دائما كانت عباراته مفعمة بالروحانية والقناعة وكانت أحلامه بسيطة جدا ومتواضعة جدا ومحدودة جدا أصغر من ثقب إبرة في رداء طويل لم يحلم بالثراء بطرق مشروعة أو غير مشروعة .. لم يحلم أن يكون رجل أعمال ذكيا يجيد تحويل التراب في الوديان إلى ذهب ويتربح من كل نسمة هواء تمر بجانبه،كانت أحلامه بسيطة جدا لا تتعدى الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية.. عم عبد الله اضطر إلى ترك قريته بعد أن عجزت القرية أن توفر له حق العمل المناسب وحق الدخل المناسب وحق الحياة الكريمة .. غادر قريته ولكن الوقت لم يسلخ ذكراها من شجرة العائلة كان يزور قريته كل شهر، كان مرهما عذبا يحط على أي جرح بليغ فيبلسمه، وكانت لديه قدرة فائقة على الوضوح في مجتمع يهوى الغموض، كنت أستبشر برؤيته خيرا بل وأعتبره حزامي الواقي من الاكتئاب.. أتذكر الأيام التي عملها معي بمذاق ثري على نحو لا يمكنني سوى مزيد من الحزن على رحيله بهذه الصورة كأن الزمن يعود شابا حين تهرم الذاكرة فيضمحل الحاضر ويذوب ليحضر الماضي ويكون هو الزمن الراهن .. لقد مات عم عبد الله وحيدا بعيدا عن أهله وقريته في مدينة صدئة أروته من مياهها الملوثة حتى الموت .. لقد افترقنا أنا وعم عبد الله جسديا بعد أن ترك العمل في (كلية الطب) ولكنه ظل يقيم في فندق ذاكرتي.. لم يكتب شيئا في خانة تاريخ المغادرة .. لقد استقبلت الخبر كزنزانة تضيق حولها القضبان، شعرت بانقباض شرس يغلق مجرى الهواء في صدري وأرتال كالحة من الأسى تصب ثقلها في وعائي.. كانت الدموع تبلل وجهي ورشح أنفي دون انقطاع، بكيته عند الفجر في (كانسس ستي) الباردة حيث ينتسب الوجع هنا إلى سلالة الديناصورات وحيث الغياب يتبلور على هيئة طبول غجرية تطرق باب الروح، كان الخبر يشق ذهني كمنام يصعب التقاطه لكنني الآن تيقنت أن فقدان ذلك البدوي العظيم ذي الجبهة العالية الملونة بلون القمح فقدان مؤكد وحقيقيا وحتى آخر العمر.. تخيلت بأنانية مفرطة أنه سافر لقريته وسيعود قريبا.. أن يرجع ويهجم على مكتبي كما تعود ويسألني كعادته (ويش لونك يابو فراس توي رجعت من الديرة).. هذا كلام في ذكرى رجل جميل أغلق الماء الملوث على جسده كدفتي كتاب وصار قصيدة بجناحين .. هذا كلام في ذكرى يد بيضاء ترتفع كإشارة (قف) لكل من ساهم في قتل عم عبد الله .. هذا كلام عن رجل يقول من قبره للكفيف (أنظر معي لم يعد يفصل شيئا بين جثث الموتى عن أحذية المارة) يتطاول على كل حي رماه في الضفة الثانية من الوجود يحاكمه ويطارده في منامه وساعات نهاره .. رحمك الله ياعم عبد الله وجازى كل من أساء إليك واستكثر عليك حق الحياة بأعماله. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة