أشرنا في المقال السابق إشارة عابرة إلى اعتبار الفنون وثيقة تاريخية، فكيف تسهم الفنون في كتابة التاريخ وتحديد معالمه، وكيف يتخذ المؤرخ من الفنون معبرا إلى قراءة وجدان الشعب في حقبة تاريخية معينة، وربما تأتي هذه القراءة أصدق حسا وأعمق أثرا من الوثائق الرسمية للحكام، وكذلك كتب الرحالة والمؤرخين. لذلك نشأ الجدل حول البحث عن الحقيقة أو ما هو منها بين المصادر التقليدية للوقائع التاريخية، ممثلة في الوثيقة المكتوبة، وبين المصادر غير التقليدية، ممثلة في الفنون التشكيلية، وفنون الحكي والقص والرواية، وفنون النحت والعمارة، وفنون الموسيقى والغناء والرقص، وفنون الزخرفة والزينة والملابس.. وغيرها.. وأيهما أكثر ملامسة للواقع والأمانة التاريخية، وأيهما يصلح كأداة أفضل للتأريخ؟ يقول (جان كوكتو): «إن الفن وحده هو الذي يقول الحقيقة، أما التاريخ فيخلق الاضطرابات والبلبلة في زمن وقوعه». لأن الفنان غالبا ما يمارس إبداعه بعيدا عن المؤثرات والضغوط والتوجيهات، عكس المؤرخ الذي غالبا ما يخضع لكل ذلك، ولا سيما إذا كان تأريخه في زمن الحدث والواقعة التاريخية، الأمر الذي يطعن كثيرا في قدسية الوثيقة التاريخية، ويشكك في مصداقيتها، فدائما ما اختلف المؤرخون حول التأريخ لحادثة واحدة، اختلافا يصل إلى درجة التنافض والتعارض في الرواية التاريخية.» أما الفنان فهو ينطلق من التاريخ بوصفه مادة خاما وأرضا خصبة، يشكل منها عمله الإبداعي، برؤية أكثر موضوعية وحيادية، ولعل الرواية الفن الأقرب ضمن الأجناس الأدبية إلى التاريخ، فكلاهما يعتمد أسلوب السرد والشخوص والأحداث، وإن بطريقة مختلفة، فالمؤرخ يعني بعرض الوقائع التاريخية، فيما تبدو براعة الأديب في عرضه للرواية التاريخية، من خلال استخلاصه الصور والأفكار منها، وتخيل مشاعر المعاصرين لها وإزائها، دون أن يلوي عنق الحقيقة، أو يتجاوز الأحداث الرئيسية، وأن يستوحي من الواقعة التاريخية تفاصيل معينة يقوم من خلالها بالإسقاط على الواقع المعاصر، وهذه هي أهم العناصر التي تبرز القيمة الفنية للرواية التاريخية. وكما كانت الرواية وثيقة للتأريخ، كذلك كانت الأغنية، ولنتتبع مراحل الغناء ل(القدس) فقبل الاحتلال الصهيوني لها كان يؤمها المسلمون والمسيحيون لزيارة الأماكن المقدسة مترنمين بأغنيات روحية متقاربة الكلمات، وأفرز الاحتلال فيما بعد مرحلة شهدت أغنيات اتخذت منحى الحديث عن الألم والجراح والثأر والانتقام، مثل رائعة عبدالوهاب (أخي جاوز الظالمون المدى)، وحمل صوت فيروز إبداعات الأخوين رحباني في العديد من الأغاني الحماسية والرومانسية أيضا حول (القدس العتيقة)، ولأم كلثوم (أصبح عندي الآن بندقية). وبعد حرب رمضان المجيدة (1393ه) ومن بعدها الانتفاضة كانت هناك مرحلة أخرى للتأكيد على عروبة فلسطين، وهو المعنى الذي ورد واضحا في أغنية آمال ماهر (عربية يا أرض فلسطين)، وأدت ظاهرة قوافل الشهداء في الانتفاضة، إلى تحول العديد من الأغاني الشعبية عن الأفراح إلى أغان وطنية، فحل الغناء لأم الشهيد محل الغناء لأم العريس. لقد فرضت بعض الفنون أمرا واقعا، كونها أضحت مصدرا أكثر مصداقية وموثوقية وموضوعية للتأريخ، فضلا عن كونها تساهم في استقراء جوانب لا تتضمنها الوثيقة الرسمية، وعبر مرايا الفن نعيد اكتشاف التاريخ.