ظن بعض الفضلاء أن ما ورد من إشارات في المقال الماضي يمثل تشخيصا وحيدا يلخص أسباب حالة الصدمة التي تواجهها الدعوة في مرحلتها الحالية. وأن ذلك فقط من آثار منهجية خاطئة وقعت فيها المدرسة الدعوية السائدة. وهذا في جانب منه حق مراد من تلك الإشارات، وذكرها ضرورة يقتضيها الإنصاف والموضوعية، ويتطلبها الصدق والشفقة، وإصلاحها بقدر المستطاع هو من المطالب الملحة التي يجب أن نواجه بها أنفسنا ونحن نمضي في طريق الدعوة إلى الله تعالى، ومن المعلوم بداهة أن أخطر الأخطاء هو ما يكون ممنهجا؛ أي جزءا من المنهج، وهو هنا إما أن يكون حاضرا ومقصودا ومحلا للقناعة المعلنة الظاهرة، وإما أن يكون من المنهجية العملية التي سار عليها الأمر وألفها الجميع حتى غدت كالمعلن الصريح، وبطبيعة الحال فهذا العامل عموما هو العامل الأكبر في وقوع حالة الصدمة الحالية، وآثاره شاهدة على ذلك، فكم هي الحالات التي انتقل فيها بعض جيل الشباب من الدعاة الذين اختطوا طريقهم وتجاوزوا عاطفية البدايات واستقروا على سنن حسن في النظر والعمل، فوقعوا في هذه المرحلة في حالة من الحيرة والارتباك أعلنها بعضهم وأظهرها، وأسرها آخرون في صدورهم، وذلك حين خرج بعض الخطاب الدعوي ممثلا في بعض رموزه عن المعهود السابق، فثارت لدى بعضهم تساؤلات عن مصداقية الموقفين المطروحين في ذات القضايا، وهل كنا على غير صواب أو صرنا إلى غير صواب، وحين تتكرر الحالات وأنا ممن تلقاه بعضهم بأسئلته وباح له بمكنون نفسه، حتى ظهر آثار ذلك على هؤلاء الفضلاء من ميل إلى العزلة، أو من علو لمفردات الشك فيما يسمع ويرى، أو من تراجع إيماني ونفسي، وخفوت لبريق التوهج والإشراق الذي كان يكسو محياه، وكل ذلك دال على وجود أخطاء أفضت إلى هذا الأثر، ويزداد الأمر سوءا حين يضعه من حوله في دائرة أسئلتهم القلقة التي يفرض عليه مقامه أن يجيب عليها، فإذا به بين حيرة داخلية لم تهدأ بعد وموقف ظاهري مطلوب يقتضيه الوضوح والوعي ليبقى في موقع القدوة المدرك والمربي الناصح، فحين ترى ذلك يتكرر فسببه بالضرورة عائد إلى المنهج، ومن هنا فإن من أهم فوائد حالة الصدمة المعاصرة ما تستوجبه من وقفة جادة مع المنهجية التي يسير عليها الدعاة تلقيا للعلم الشرعي وفهما له وإدراكا للواقع وأبعاده، ومعرفة بأسس المواءمة الراشدة بين مشروع الإسلام ومتطلبات الحياة المعاصرة، وقدرة على اختراق الحواجز الجديدة التي برزت في طريق الدعوة إلى الله في السياقات كلها، ولن يكون ذلك إلا من خلال حالة من التواضع والصدق واستلهام المدد والعون من الله تعالى، وتقييم دقيق لأخطاء المرحلة السابقة والوضوح المنهجي الحاضر في التكوين والممارسة، وإيضاح كل ذلك ربما تقود إليه سلسلة المقالات المقبلة في هذا الموضوع، ومع ذلك فإن جزءا كبيرا من أسباب حالة الصدمة جاء من قبل شخصيات تحولت لجهل أو ضعف أو لاجتهاد خاطئ فمارست خلطا مركزا للمفاهيم، والمنهجية الدعوية مما طرحوه براء، أو لأسباب من خارج الدائرة الدعوية، وهو ما سنتحدث عنه في الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.