يشهد العالم العربي والإسلامي حالة غريبة عجيبة يمكن تسميتها ب «الوباء الإفتائي الفضائي»، ففي عدد من الأقطار العربية والإسلامية هناك إمكانية متاحة لتحطيم الأرقام القياسية والحصول على مفت لكل مواطن!، فالمفتون أصبحوا كما يقول المثل المصري «أكثر من الهم على القلب»، وهم أصناف وأشكال وتيارات واتجاهات، بينها من التفاوت أكثر مما بين المشرق والمغرب. ضوابط الفتوى الفضائية لدينا عائمة، وشروط المفتين شبه معدومة، أما حين نعود للفتوى نفسها فلنا أن نعترف بصراحة أنها لم تزل في تيه أطول من تيه بني إسرائيل بكثير، فكل من التزم بهيئة شكلية معينة من طول لحية وقصر ثوب ونحوها، أو تدرج في مسالك العلم الشرعي فنال شهادة ما أو قدم رسالة في موضوع محدد وعنوان صغير أحس من نفسه أنه أهل للفتوى في كل شيء، وإن كانت رسالته عن الحيض أو الوضوء فقط! إن الأنكى هو أن عامة الناس ترحب بأمثال هؤلاء وبفتواهم، وإن لم ترحب فهي على أحسن الأحوال لا تستنكر، وإضافة لمؤسسات الفتوى بدأ أولئك الملتحقون بالعلم الشرعي كل بحسبه في تخريج مؤسسات فتوى وتيارات فتوى ورموز فتوى وأشبال فتوى وناشئي فتوى ومنتخبات فتوى من كل صنف وكل لون، وهذه الفرق والمنتخبات الإفتائية تتقاطر علينا من كل فج عميقٍ، وتحاصرنا من كل حدب وصوب، ويبقى الناس مستقبلين غير محصنين لهذا الكم الضخم من الفتاوى، التي تترى على أسماعهم وعقولهم صباح مساء. لا ينكر عاقل حاجة الناس النفسية للاطمئنان على صحة تصرفاتهم الدينية، وذلك شأن باعثه الإيمان العميق والبحث عن النقاء الديني، وهذا أمر مفهوم ومشروع في نفس الوقت، ولكن هذا لا ينفي خطيئة تحوير هذا البحث وذلك الباعث ليصبح غولا يلاحق عباد الله أينما اتجهوا وحيثما تصرفوا، فالواقع اليوم يخبرنا أن الناس بدأت بالسؤال عن توافه الأمور وأحقر المسائل والإلحاح عليها، كلبس النعل ونوع المنديل وشكل السيارة ولباس العيد والزهور والمسلسلات وغيرها من تفاصيل المسائل التوافه كنوع الطعام والشراب ولون اللباس وماركة القميص ونحوها، وهذا الوباء الإفتائي هو عين ما كان يسميه السابقون ب «التنطع في الدين». إن ما يعرف ب «التنطع في الدين» ليس أكذوبة من حاقد ولا بدعة من شانئ ولكنه مصطلح تراثي بحت، كان يطلقه العلماء والفقهاء على المتشددين في أزمانهم، أولئك الذين يقلبون الدين، فيجعلون قشوره لبابا ولبابه قشورا، ويدخلونه فيما ليس من شأنه لأغراض في نفس يعقوب. إن هذه الجناية هي فرع عن جنايات متعددة على مساحة «المباح» في الأديان كلها والدين الإسلامي بوجه خاص، فهي مساحة لطالما ابتليت بالهضم والإجحاف، ولكنها لم تشهد هضما كحاضرنا هذا، ولم تر إجحافا كيومنا المعاصر، ولم تعرف انحسارا لدى الأديان الأخرى كما تشهده لدى المسلمين. ليس مفتو التوافه هذه بأحسن حالا من غيرهم من المفتين، الذين يحسبون أنهم أرقى مقاما وأرفع حالا، من أمثال مدعيي الإعجاز العلمي في الدين ممن يتلاعبون بالدين تلاعب السفهاء وينسبون له في كل حادثة رأيا وفي كل نازلة حكما، وأشد منهم أذى منتحلو «إسلامية المعرفة» الذين يزعمون أن للدين في كل علم حكما وفي كل متغير دورا، فيلغون الإنسان تماما ويقضون على مساحة الإبداع البشري والاجتهاد الإنساني مع قضائهم المبرم على «مساحة المباح». هذا الوباء الإفتائي الجديد لم يولد بين عشية وضحاها، ولم يحدث مصادفة، وإنما هو نتيجة منطقية لتراكم طويل الذيل في التراث لمحاولة استنطاق النصوص الدينية بما لم تقله، وذلك بغرض تغطية المستجدات التي لم يكن مفكرا فيها حينذاك وإنما جدت للبشر بعد الرسالة، فلم يكن من الفقهاء إلا محاولة توسيع نطاق «الأحكام التكليفية» أي الواجب والحرام ونحوها وتضييق مساحة «المباح» أي المسكوت عنه دينيا، وهو ما ندفع اليوم ثمن استمراره وتأثيره السيئ على مجتمعاتنا. لقد سعت الجماعات الإسلاموية بجد واجتهاد لأن تعتقل المجتمعات والأفراد في منظوماتها التي بنتها ومفاهيمها التي رعتها، لا لشيء إلا لتضمن لنفسها مكانة وتأثيرا عميقا على تلك المجتمعات وأولئك الأفراد، فهي في سعيٍ دؤوب لنيل تلك المكانة المؤثرة والحصول على ذلك الدور المهم. ورد في الأثر عن بعض السلف أنه قال: «ما رأيت الزهد في شيء أقل منه الرئاسة»، أي حب السلطة، وبعض مفتي اليوم الحاضر ليسوا بأية حال أنزه من فقهاء الأمس الغابر، فحب السلطة هنا لا يتمثل في السلطة السياسية فحسب مع وجود كثير من المفتين المنتمين لتيارات الإسلام السياسي الذين يسعون جهدهم للحصول على السلطة السياسية مهما كلفهم الأمر، لكن هذا النوع من محبة السلطة ليس الأكثر في طائفة المفتين الجدد، بل إن ثمة نوعا آخر من السلطة هو مقصدهم الأول وهدفهم الرئيس وهو يتمثل في سلطة النفوذ والجماهيرية والتكثر من الأتباع، والسعي الدائم لجعل الفتوى جسرا للوصول لهذه السلطة ووسيلة لا تخذلهم في التحكم في حياة الناس وتفاصيلها الدقيقة. نستحضر هنا أن القرآن الكريم كتاب الإسلام الأول ومرجعيته الكبرى لم يرد فيه إلا تسعة أسئلة فقط لا أقل ولا أكثر، ونستحضر النهي النبوي عن الإكثار من الأسئلة خشية التحريم، ونجد أن الصحابة كانوا يتدافعون الفتوى فيما بينهم ولا يرغبون في الإفتاء، ونعلم أن عددا من الفقهاء الكبار في التراث الإسلامي كانوا يكثرون من كلمة «لا أدري» في جوابهم على الاستفتاءات التي ترد إليهم. حين نستحضر ما سبق لا نملك إلا المقارنة مع الوباء الإفتائي المعاصر، وكيف أن هؤلاء المفتين الجدد يمشون في اتجاه هو على النقيض من مرجعيات الإسلام الكبرى وعمل علمائه وفقهائه فهم في غي هذا الوباء سادرون وعلى غوايته يتسابقون. أتابع مثل غيري منذ سنوات برامج الإفتاء في كثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ولا أذكر أنني سمعت أو قرأت مفتيا يوما يجيب عن سؤال بكلمة لا أدري، هذا وبعض الأسئلة التي تأتيهم هي أسئلة عن مواضيع شديدة التعقيد في السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والاجتماع ونحوها من المسائل المحدثة الجديدة التي تحتاج لمختصين بارعين لفهمها وإدراكها أولا ثم لتحديد المصلحة فيها ثانيا، ومع هذا لم أسمع ولا مرة واحدة أحدهم يجيب بلا أدري!. أحسب أن معالجة هذا الوباء الإفتائي تحتاج إلى لجان وورش عمل وخطط طوارئ وميزانيات كتلك التي أقامها العالم ورصدتها أكثر دوله لمعالجة وباء انفلونزا الخنازير، فهذا وباء يفتك بالأجساد وذلك وباء يفتك بالعقول والقلوب. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة