لم أصدق عيني وأنا أرى صور ومشاهد فيضانات جدة. هل أنا أحلم؟! هل يوجد شيء رهيب كهذا في السعودية التي هي بعيدة، بسبب موقعها الجغرافي وظروفها البيئية، عن كوارث الطبيعة ونوازلها؟! حينما رأيت المشاهد المؤلمة والمرعبة افترضت أنها مشاهد من تلك الكوارث الطبيعية التي تضرب باستمرار البلدان والجزر البعيدة عنا بعد الكاريبي وجاكرتا، وهي من المشاهد التي يحلو لمخرجي أفلام الكوارث السينمائية أن يحاكوها ويدققوا النظر فيها!. ولكنني تأملت جيدا في المشهد المرعب، ودققت النظر في الوجوه والجثث والسيارات والطرق، وعرفت حينها أنها مشاهد قريبة، وقريبة جدا، وأنها ليست كوارث كاريبية ولا خدعا فوتوشوبية .. إنها «سعودية» بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أخيرا استوعبت هذا الغضب الشعبي العارم الذي وجد طريقه للتعبير في الصحف والإنترنت والمجالس وفي كل مكان. وقبل ذلك استوعبت جيدا خطورة الموقف من خلال غضب القيادة ممثلة في الملك عبد الله ومجسدة في القرار التاريخي والدعوة الجادة والحاسمة إلى تشكيل لجان المحاسبة والمساءلة الصارمة. إن كارثة جدة ليست مجرد كارثة طبيعية، بل هي أيضا كارثة بيروقراطية وإدارية، ويجب الاعتراف بهذا وتحمل تبعاته. فهل كمية الأمطار والسيول التي هطلت على جدة في تلك الأيام المشؤومة هي أكبر كمية تهطل عليها في تاريخها المديد؟! لا أظن ذلك وإلا فإن هيئة الأرصاد وغيرها من الجهات ستعلن عن هذه الحقيقة. المشكل الكبير هو أن الذي زاد وتراكم، ليس المطر والسيل، بل الفساد. نعم، كمية الفساد التي تهطل على جدة منذ سنين تتراكم يوما تلو يوم، وكارثة تلو كارثة. إن الفساد الإداري والمالي يصنع ما هو أبشع من هذا؛ إنه يتسبب في إشعال وإيقاظ العداوات وإفناء الأمم .. أفلا يكون قادرا على إغراق مدينة، أو جزء منها؟! سمعنا من أجدادنا عن كوارث وبائية وطبيعية، وهي أشبه بالخيال والأحلام، وبما أنها غير مدونة في ذلك الوقت ولا نستطيع التحقق من مدى بشاعتها، فإنني أعتبر كارثة جدة هي أعتى كارثة طبيعية وبشرية مرت على البلاد في العقود الطويلة الماضية. لدى علماء التاريخ مبدأ لتفسير التغيرات التاريخية والتطورات الحضارية، وهو مبدأ التحدي والاستجابة؛ فإذا ما واجهت الأمة تحديا فإنها تستجيب تلقائيا لهذا التحدي وتتصدى له من خلال التطوير والإصلاح، وقبل ذلك الشفافية والنقد والمساءلة. إن كارثة جدة لم تنته بعد، حتى ولو جفت السيول ومآقي العيون، إنها تحد كبير سيلازمنا لسنين طويلة، سواء اعتبرناه كذلك أم لا، وسواء تغاضينا عن مدى قوته وشراسته أم لا. وها هي ذي بوادر «الاستجابة» التاريخية الحقيقية تتمثل في خطاب الملك وقراره الصارم. ولكن الاستجابة تكتمل بتنفيذ هذه القرارات، وبالوقوف شعبا ومثقفين ورجال أعمال وشيوخا وإعلاميين مع الملك لتأييد القرار وتقوية إرادة المحاسبة والمساءلة. فمواجهة مسألة عصيبة كهذه تتطلب تكاتف وتآزر جميع المواطنين مع القيادة. إن هناك أشخاصا وجهات تحاول جهدها لكي تحرف مسار القضية الكبرى، بقصد أو بغير قصد. فمنهم من جعل الأمر مجرد كارثة طبيعية وحسب، ولا قدرة لنا على صدها، وأنها تحدث في بلدان أخرى أكثر قدرة منا وأعلى إمكانيات، وهناك وهذا الأدهى من يتلاعب بالقضية تلاعبا أيديولوجيا؛ فيجعل الكارثة عقابا إلهيا ولا أدري هل يتلقى هؤلاء وحيا من الله ولم يخبرونا؟!، وهناك من يجعل المتسبب في الكارثة، أو في جانبها الإداري، اسما مجهولا لا يعرف له وجه ولا قفا. إن تحريف مسار القضية / الكارثة وعدم التعامل معها بشفافية وصرامة وتأن وجدية، هو بمثابة التنازل المجاني والمستهتر عن حقوق أرواح كثيرة قضت في هذه الكارثة وآخرين لا يزالون في ذمة الركام والأنقاض والوحل. إن من حق كل ضحية وكل مغبون أن يقاد له، وأن يؤخذ بحقه كاملا غير منقوص. وأبسط الحقوق هو محاسبة المسؤولين قضائيا وبصورة علنية. لقد نشرت في الصحف أسماء المتوفين والغرقى، فهل تنشر الصحف أسماء المتورطين في إغراقهم وإغراق مدينتهم «العروس»؟! هذا هو المطلب الأهم، والنقلة الجذرية التي بشر بها خطاب الملك. فلقد كان خطابا نقديا وشفافا وصريحا، ووضع النقاط على الحروف. بينما هناك من يتعمد حذف النقاط، ولو استطاع لمحا الحروف محوا، وأبقى على صفحته وصفحة من معه بيضاء ناصعة، وهي في حقيقة الأمر ملطخة وملونة بالأحمر والأسود وبقية الألوان القاتمة. لهذه الكارثة جانبان: طبيعي، وبيروقراطي أو إداري، وحسب المعطيات التي ذكرناها في مستهل المقال فإن الجانب الإداري هو الذي تسبب في حدوث الجانب الطبيعي؛ إنه من خلال تقصيره وإهماله وفساده هو كمن دعا السيول إلى أن تخترق شوارع ومنازل وكباري جدة. لقد رحب بالكارثة وفتح لها صدر المدينة ! أجل، لقد كان بإمكانه أن يلقي بالسيل إلى عرض البحر أو في باطن الأرض وتنتهي المشكلة، ولكن الذي حدث هو أن البحر وباطن الأرض لم يستقبلا السيول، بل استقبلها ظاهر الأرض ومن عليها من بشر وحجر وشجر. إن ما حدث قد حدث، ولا نستطيع محاسبة الطبيعة والسحب والأمطار، ولكننا نستطيع محاسبة الجانب الآخر: الجانب البشري، والاستفادة من هذه الدرس الكارثي أصبحت ضرورة حتمية، وأضحت ضرورة التغيير الشامل ملحة. إن جدة مثال واحد من بين كثير من الأمثلة المعرضة لكوارث مشابهة أو غير مشابهة. فهل ننتظر حتى يعم الدمار والهلاك أرجاء البلاد لكي نبدأ بالتغيير الجذري، ولكي نكون بمستوى خطاب الملك التاريخي في شفافيته وغضبه النزيه؟! للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة