تختلف نظرة الناس في مسألة الدعم الحكومي للسلع والخدمات الاستهلاكية باختلاف مفاهيمهم وتصوراتهم ومرجعياتهم الاقتصادية، وتبعا لدرجة الالتباس بين الاقتصادي والاجتماعي في الذهنية العامة. لكن المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية تجمع على أن الدعم المباشر يرفع من الاستهلاك ويقلل من الإنتاج، ويمكن أن يضاف إلى هذه الحقيقة أنه في الحالة المحلية يرفع الأسعار أيضا؛ لأن النسبة الأكبر من الدعم لا تذهب بالضرورة إلى المواطن (المستهدف)، وإنما قد تصب في جيوب طبقات أخرى في الداخل والخارج، من بينها التجار والموردون والسماسرة ومن لف لفهم. دعم الشعير رفع الاستهلاك المحلي إلى (40 في المائة) من إجمالي التجارة العالمية لهذه السلعة، ودعم الأرز رفع نسبة الاستهلاك لدى شعب يتربع سكانه على عرش الاستهلاك العالمي، حيث يستهلكون أكثر مما تستهلك شعوب الاتحاد الأوروبي مجتمعة. الدولة تعمل على تخفيف أعباء الغلاء عن كاهل المواطن من خلال دعم سلة من السلع والخدمات العامة، وهو تدوير لبعض مداخيل البلاد في خدمة مباشرة للمواطن من ذوي الدخل المحدود، وإن كانت استفادة الطبقات الأخرى من إجمالي هذا الدعم تكون قد سبقته.. فهي الشريحة الأكبر والأشمل. لو أخذنا البنزين كمثال لوجدنا أن هذا الدعم قد شجع على زيادة الاستهلاك (غير الإنتاجي) وارتفاع التهريب وزيادة الاعتمادية على المركبات الخاصة وتضاؤل فرص بناء قطاع نقل عام وزيادة فاتورة البلاد الإجمالية من الاستهلاك العام. بالنسبة لي على الأقل، لو ذهب وقود سيارتي لصالح صندوق أو هيئة عامة تعنى مباشرة ببناء شبكة حديثة للنقل العام قوامها القطارات والمتروهات وشركات النقل العام، لوجدت في ذلك استثمارا فرديا أكثر جدوى.. لي قبل أبنائي وأحفادي. لكن المشكلة التي تواجهنا في هذا الصدد هي عدم بناء قنوات مؤسسية (استثمارية خدمية) قادرة على ترجمة مثل هذه المخصصات وإعادة إنتاجها على هيئة مشاريع وخدمات راقية، كما هو حاصل في الدول الأخرى. ولذلك فإن المواطن المثقف يقف في حالة ذهول من تحديد نظرته النهائية لقضية الدعم الحكومي، فلا هو يستطيع الادعاء بأن هذه السياسة تخدم البلاد على المدى البعيد حتى والقصير، ولا هو قادر على القول بحجب هذه الإعانات وانتهى الأمر، لتأخذ هذه المخصصات طريقها في بنود الميزانية العامة والتي هي في مجملها ميزانية خدماتية!! البعد التنظيمي والهيكلي يظل هو الغائب الأبرز في هذه المعادلة.