في كتاب الأدب الصغير والأدب الكبير، نص لابن المقفع يرى فيه أن «على العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا، وإن ظن أنه على اليقين». هذا النص راسخ في ذاكرتي منذ المرة الأولى التي اطلعت فيها عليه قبل ثلاثة عقود أو أكثر، لكني في كل مرة أستعيده فيها أنظر إليه من منظور جديد وأزنه بميزان مختلف، حين كنت أصغر سنا في غمرة الحماس والاندفاع كنت أرى في رأي ابن المقفع هذا جبنا وتخاذلا عن الحق، وضعفا أمام طلب السلامة وحب الحياة، وما كان يعنيني أنه يصور حقيقة وواقعا تفرضه الحياة في بعض المرات، ما كنت أراه واضحا كالشمس هو أن العاقل حين يصمت عن إبداء رأي يظنه صوابا، لمجرد أنه يخالف رأي الأغلبية وقد يثيرها ضده فتسلط حرابها نحو عنقه، هو يسهم في أن لا يكون هناك إصلاح أو تغيير، وأن لا نكشف حجب الظلام متى سدلت، وأن لا تقتلع طفيليات الفساد كلما نبتت، فأين الصواب في رأي كهذا ؟ هو ليس سوى تحريض على الكذب والنفاق، أليس الساكت عن قول الحق شيطان أخرس؟ ولوجه الحق، كم هم اليوم الذين يؤمنون بمبدأ ابن المقفع هذا ! وكم هم الذين يطبقونه حرفيا في حياتهم! وكم هي الخسارة التي يجنيها المجتمع من وراء ذلك! ولكن مع ذلك هل يحق لنا أن نصف ابن المقفع بالجبان المتخاذل حين يرى هذا الرأي؟ أو أن نلوم «العاقل» إن هو جبن وتخاذل عن إبداء الرأي طلبا للسلامة والعافية؟ وهل من الحق أن نطالب المصلحين والمفكرين بأن يكونوا مثاليين فيضحوا بسلامتهم في سبيل إصلاح مجتمعاتهم، وينكروا ذواتهم مقابل الارتقاء بحال أمتهم؟ أليس في هذا النوع من الرومانسية الموغلة في المثاليات البعيدة عن أرض الواقع؟ ولأن ابن المقفع عاش في عصر يؤمن بحرية التعبير وينكر لجم الأفواه ما احتاج إلى مثل هذا القول، فعبارته تشي بالمعاناة التي كان يعيشها الناس في عصره من ازدهار للوشاية وإصغار للافتراءات وأخذ بالشبهة ما يعبر عن معايشته لأزمة في حرية التعبير بالغة السوء، غياب حرية التعبير عن الرأي هي من أقدم المعضلات التي واجهها الناس وطال اختلافهم حولها، وظلت الأمم عبر التاريخ تعاني من آثارها التي تفاوتت بحسب حجم الأنظمة والقيود المفروضة للجم الأفواه وقطع الألسن وغمد الأقلام، حتى أماتت كثيرا من الضمائر وأحيت بدائع النفاق والكذب. فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة