لا يمكن تشبيه الاعتداءات التي تعرض لها حوالى 40 من سائقي الشاحنات السعوديين في مدينة سحاب الأردنية الأسبوع الماضي بغير ما نراه على شاشات السينما الأمريكية من روايات وحكايات العنف المنفلت في الغرب الأمريكي المتوحش الذي لا يخضع لمنطق أو عقل أو ضمير. جموع من الغوغاء المسلحين بالأسلحة النارية والبيضاء تهاجم السائقين وتجبرهم على الالتجاء إلى أحد المساجد، وشخص مسلح من الغوغاء يسحل أحد السائقين في الشارع ويضع السكين على رقبته مهددا ومتوعدا أن يمضي السكين في رقبته إن رآه في الأردن مرة أخرى، وإمام مسجد يتدخل لإنقاذ الضحايا، ولا أحد يتدخل لولا أن هدى الله السائقين المحاصرين في المسجد للاتصال بسفارة المملكة في عمان لنجدتهم بإرسال مسؤول العلاقات الميدانية في السفارة السعودية في عمان الأستاذ محمد بن عطا الله الطوالة الذي لم تجد قوات الأمن الأردنية بدا من الاستجابة لطلبه في التدخل وإخلاء السائقين من المسجد تحت الحراسة ليتمكن مندوب السفارة من الإشراف على انسحابهم بشاحناتهم وحمولاتها ونقل المصابين منهم بسيارته الخاصة إلى أحد مستشفيات عمان لتلقي العلاج اللازم. هذه التفاصيل وردت على لسان الأستاذ الطوالة وعلى ألسنة السائقين الذين كتب لهم لعب دور الضحية في هذا الفيلم المخزي، وتم تناقلها عبر وكالات الأنباء وكبريات الصحف السعودية والأردنية وفي مقدمتها «عكاظ» التي سارعت يوم الثلاثاء الأول من سبتمبر الحالي إلى نشر تصريح الأستاذ محمد الطوالة الذي أكد أنه وقف شخصيا على الحادثة، وأعرب عن أسفه لهذا الاعتداء «غير المقبول»، مبينا أنه أعد تقريرا كاملا عن الحادثة، وسيقدم لسفير المملكة في الأردن تمهيدا لرفعه إلى وزارة الخارجية الأردنية. وما هي إلا سويعات من نشر تصريح الأستاذ الطوالة في «عكاظ» حتى سارع ناطق إعلامي باسم مديرية الأمن العام إلى نفي ما ورد في «عكاظ» ووصفه بأنه (غير صحيح) موضحا (أن الأمر انحصر في قيام عدد من الأطفال برشق الحجارة على بعض السائقين في منطقة سحاب بعد صدور بعض التصرفات اللا أخلاقية ك «التبول في الطريق العام، واستبدال ملابسهم على مرأى من المارة» نتيجة انتظارهم لساعات طويلة أمام أحد المستودعات التي تعود ملكيتها إلى إحدى الشركات). ولكن رواية السائقين على لسان أحدهم، حسبما ورد في (جريدة الرياض) يوم الأربعاء الماضي تقول: (علمنا فيما بعد أنه حدثت مشاجرة في جمرك الحديثة السعودي بين سائق شاحنة أردني وآخر سعودي نتيجة حادث مروري توعد على إثرها السائق الأردني جميع السائقين السعوديين بتحطيم سياراتهم إذا ما وصلوا إلى ساحة تنزيل الاسمنت في سحاب.. وهذا ما حدث فعلا فلقد قام بجمع عدد كبير من الأشخاص الذين هاجمونا بشكل مرعب ومخيف تحت مشاهدة قوات الأمن الأردنية). وبربط هذه الشهادة بما ورد في تصريح الأستاذ الطوالة في «عكاظ» ( وفيما يتعلق بقضية اتهام سائق شاحنة سعودي خ. ح (62 عاما) باغتصاب طفل، أوضح الطوالة أن السفارة السعودية تتابع هذا الموضوع، إذ إن مقدم الشكوى سائق شاحنة أردني سبق أن أحدث خلافا مع السائق السعودي على الحدود. وأشار إلى أن أحد السائقين الأردنيين قد ترصد للسائق السعودي وأبلغ عنه داخل الأردن بأنه اغتصب طفلا، وألقي القبض عليه وأودع السجن وجرى التحقيق معه، وخرج من السجن أمس الاثنين). وبهذا يمكن الربط بسهولة بين تهديد السائق الأردني بالانتقام وترصده للسعودي داخل الأردن واتهامه زورا وبهتانا باغتصاب الطفل وعدم رضاه عن إطلاق سراحه من قبل السلطات الأردنية بعد ثبوت براءته ليلجأ إلى (ربع الكفافي الحمر والعقل ميالة) من ربعه وجماعته لينتقموا من كافة سائقي الشاحنات السعوديين الذين لا ناقة لهم في الخلاف بين الاثنين ولا جمل. وبهذا يمكن تبين أن الهجوم على السائقين السعوديين كان مبيتا ومعدا له إعدادا جيدا وموقوتا ليسبق موعد الإفطار بدقائق حيث تخلو الشوارع من المارة وتكون قوات الأمن والمرور في حالة الاسترخاء المعتادة التي تسبق الفطور في رمضان. وبهذا أيضا يمكن تبين أن الأمر لا يخلو أيضا من (مؤامرة) يجب فتح تحقيق للتعرف على أطرافها فالظاهر أن هناك أهدافا أخرى تتعدى مجرد الانتقام بين سائقين من الطرفين إلى محاولة منع تجارة (الترانزيت) بالشاحنات السعودية من الإسمنت إلى باقي المواد باتجاه دول الشمال و(العراق) الذي كان الوجهة الأساسية للشاحنات حسب تصريح الناطق الإعلامي للأمن العام الأردني، فمن الذي استدرج الشاحنات بعد عدم السماح لها بدخول العراق إلى مدينة (سحاب) على وجه التحديد؟ ولماذا؟ أرى أن العامل الاقتصادي والتنافس على قطاع نقل تجارة (الترانزيت) هو المحرك الأساسي لمجمل القضية بما فيها الخلاف بين السائق الأردني والسعودي الذي تطور إلى هذه الأبعاد. فأهل (سحاب والرمثا) يشتهرون باحتكار صناعة النقل الدولي بالشاحنات بين الأردن وباقي دول العالم ويستفزهم مشهد تحرك الشاحنات السعودية عبر بلادهم بحمولات نحو دول أخرى دون أن يكون لهم أي نصيب منها حتى كسائقين. ويبدو أنهم تكاتفوا مع متضررين آخرين لإيقاف هذا التحرك بهذه الطريقة البدائية. أما بيان الناطق الإعلامي للأمن العام الأردني الذي يشير إلى «التبول في الطريق العام ، واستبدال ملابسهم على مرأى من المارة» وأن (أطفالا) رشقوهم بالحجارة، فغير منطقي ومرفوض جملة وتفصيلا. لأن فرض النظام وحماية الآداب العامة لا يتم عن طريق أطفال بل عن طريق السلطات الأمنية والبلدية. ومنذ متى كان الأطفال يتواجدون خارج منازلهم في البلاد الإسلامية وقت الفطور ليرشقوا أشقاء صائمين بالحجارة؟! ما عرفنا أهل سحاب بهذا السوء في تربية أبنائهم فهم منا ونحن منهم وهم امتداد طبيعي للقبائل التي ينحدر منها هؤلاء السائقون السعوديون، والعلاقات بين أهل الأردن بصفة عامة وأهل سحاب والرمثا على وجه الخصوص وأهل الشمال السعودي هي علاقات تخطت حدود الجوار إلى النسب والمصاهرة ولا أظن ما حدث إلا سحابة صيف عابرة سببتها الأزمة الاقتصادية العالمية والركود الذي يعاني منه قطاع النقل الأردني. أما بالنسبة للتبول والوضوء على قارعة الطريق فهذه ممارسة (عادية) موجودة في العديد من المناطق الريفية في العالم العربي بما فيه الأردن، ولا تستدعي الهجوم على السائقين وتحطيم سياراتهم ووضع السكاكين على رقابهم. وهي ممارسة يقوم بها كثيرون في الأماكن الخلوية والمنزوية من المحيط إلى الخليج لعدم توفر دورات المياه العامة في الأماكن التي يجب أن تتوفر فيها؟ وما عسى سائق شاحنة ينتظر لأكثر من عشر ساعات أمام باب مستودع أن يفعل استجابة لحاجته الطبيعية مع عدم توفر دورة مياه؟ من المؤكد أنه (سيعملها) بجوار شاحنته ويتوضأ من إبريق ماء. لقد رأيت بأم عيني، في صغري، العشرات من السائقين الأردنيين (الرماثنة) يقدمون عليها في ساحات (جمرك طريف) قبل أربعين عاما ولم أقذفهم بالحجارة، ولم أر في ذلك أية غرابة أو ما يدعو للاستهجان، وازدادت قناعتي بأن الحاجات الإنسانية تفرض نفسها بصرف النظر عن التقدم والتخلف بعدما أقمت في السويد وفي بعض المدن الأمريكية والأوروبية فترة من الزمن لاحظت خلالها أثناء ممارسة رياضة المشي في الصباح الباكر أن معظم ما تنظفه مكانس البلديات المتحركة كان البول والمخلفات الثقيلة الأخرى من سهارى وسكارى آخر الليل الذين لا يجدون دورات مياه عامة أو خاصة مفتوحة فيلجؤون إلى تفريغ حمولاتهم العفنة على أطراف الشوارع.. لذلك أنصح الجميع بالإكثار من دورات المياه في أماكن تجمع الشاحنات وأماكن التفريغ والانتظار قرب المدن. ومن جانب آخر أنصح شركات نقل الترانزيت في الدول العربية المتجاورة إلى إنشاء شراكات والدخول في تفاهمات مع المنافسين (إيلاف) في سبيل تعزيز العلاقات الأخوية وتنمية المشاعر الإيجابية. ولكن يبقى أن نؤكد على أن ما أدعو إليه من تعاون مستقبلي لا يبرر السكوت عن المطالبة بحقوق السائقين السعوديين الذين تضرروا مما جرى لهم في سحاب الأردنية وتعويضهم ماديا ومعنويا عن الأضرار التي لحقت بهم ومحاسبة كل من كانت له يد في الاعتداء الهمجي عليهم سواء من الأفراد أو المؤسسات والكف عن تشويههم بممارسة طبيعية تنتشر على نطاق واسع في كافة أرجاء المعمورة بما في ذلك الأردن الشقيق. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة