?? ((قد لا أكون ذكرت في هذا الكتاب كل الحق، ولكنني أؤكد للقارئ أنني لم أذكر فيه إلا الحق)). ?? هذه الكلمة للمؤلف، هي مفتاح فصول ومغاليق هذا الكتاب وقد أطرت كل باب وفصل فيه وهي من جانب آخر مفتاح شخصية مؤلفه فمن يعرفه يدرك أنه عندما يتحدث يكون بمنتهى الوضوح والصدق. هذا الكتاب «دبلوماسي من طيبة: محطات في رحلة العمر» لمؤلفه معالي الدكتور نزار مدني وزير الدولة للشؤون الخارجية فاجأني وأمتعني. أما أنه فاجأني فلأني أعرف المؤلف قليل الحديث عن نفسه، كثير الصمت في المجالس التي يغشاها. والمناصب أحيانا تغطي بعض جوانب الإنسان الشخصية والجميلة.. لقد رأيت في هذا الكتاب الوجه الأدبي والإنساني لنزار مدني متجليا بين دفات هذا الكتاب وسطوره. أما أنه أمتعني فقد صحبت هذا الكتاب في رحلة قصيرة فكان من أجمل ما امتعني وأنا أرحل بين محطات حروفه ومحطات حياة مؤلفه، فإنك لا تستطيع إلا أن تقرأه من الغلاف إلى الغلاف -كما قال عنه الكاتب الكبير عبد الله خياط. ??? دعوني أدلف إلى حرم هذا الكتاب مطوفا بين صفحاته واقفا عند بعض فصوله، متأملا مع القارئ في الأحداث التي شكلت شخصية مؤلفه. أول ما يلفت نظر القارئ في كثير من الأحداث والأعمال والشؤون والشجون التي مرت بالمؤلف بل وجهت بوصلة حياته أنه لم يخطط لها أو يسعى إليها وبخاصة ماتسنمه من أعمال ومناصب من عمل بالسفارة بأمريكا إلى مدير عام الإدارة الغربية بوزارة الخارجية إلى عضو الشورى إلى مساعد وزير الخارجية إلى أن أصبح وزير الدولة فيها. لقد كانت حياته يدبرها الله في علياء سمائه، فمثلا جاء إلى وزارة الخارجية وعمل فيها «بالسفارة السعودية بواشنطن وظل فيها سنوات عشر عاد منها إلى المملكة، وكان عازما أن ينتقل منها إلى جهة عمل أخرى، ولكن القدر الذي يوجه حياته جعله يتعين مديرا لإحدى إداراتها «الإدارة الغربية» وموقف آخر عندما تشرف بعضوية الشورى وعند نهاية دورته الأولى جاء إلى سمو الأمير سعود الفيصل ليعرض عليه رغبته بالتقاعد من العمل الحكومي، سواء جدد له بالشورى أم لم يجدد، وإذا بالأمير سعود الفيصل يطلب منه التريث قليلا ويطلب زيارته بمنزله بعد صلاة الجمعة، وفعلا ذهب وإذا بالأمير سعود يفيده بأنه مرشح ليكون مساعدا لوزير الخارجية بالمرتبة الممتازة.. وهكذا تسير أحداث حياة الكاتب موجها مداراتها مدبر الأكوان وخالق الإنسان. ??? ?? المؤلف قسم كتابه في مهنية رائعة وتقسيم منطقي إلى 6 فصول. ? الأول «الجذور» حكا فيه عن طفولته وصباه وبداية شبابه ودراسته حتى نهاية المرحلة الثانوية في مدينة الطهر «طيبة العطرة».. وكم كان هذا الفصل بما أورد فيه المؤلف من مواقف شكلت مسيرة ومسار حياته، وقد عاش في بيت أدب وعلم فوالده الأديب السيد عبيد مدني، مما كان له أبلغ الأثر في عشقه للقراءة وحبه للأدب. ? الفصل الثاني «التحول»، وهذه المرحلة «مرحلة الدراسة بالقاهرة».. كانت نقطة تحول فعلا، فقد انتقل من المدينة الهادئة إلى القاهرة الصاخبة. وانتقل من العيش في ظل دفء أسرته ومنزل أهله، والتفاف أقاربه ليعيش وحيدا مغتربا يواجه ظروف الحياة والدراسة لوحده دون موجه سوى «عناية الله» التي رافقته ووجهته في حياته دراسة وعملا وزواجا وأولادا. وكم توقفت في نهاية هذا الفصل عند رسالة أدبية يطرزها الشجن والتأمل عندما زار القاهرة بعد سنين طويلة زيارة عمل بوصفه مسؤولا كبيرا بوزارة الخارجية ومر من عند تلك العمارة التي سكن فيها طالبا فخاطبها بقطعة أدبية بالغة التأثير رجع فيها إلى سني أيامه الأولى عندما جاء إلى القاهرة للدراسة ولم يكن يعلم وقتها وهو في ريعان وبداية الشباب إلى أين سوف تتوجه أو يتجه به قارب الحياة.. هذه الرسالة تحمل رسالة تشي بأن حياة الإنسان تسير وفق قدر معلوم محدد. ومن يقع عليه القدر لا يعرف عنه شيئا رغم أنه هو الذي يشكل حروف مستقبله. أتمنى من كل من يقرأ هذا الكتاب أن يتوقف عند هذه الرسالة وأن يتأملها فهي تحمل رؤية إيمانية تسكب الطمأنينة في وديان قارئها تجاه مستقبل أيامه وجميع تحولات حياته. ??? ?? الفصل الثالث في رحلة المؤلف العملية الأولى التي أسماها «التأسيس»، وقد تحدث فيها عن بدايات عمله الوظيفي بوزارة الخارجية التي دخلها موظفا عاديا حتى أصبح على رأسها وزيرا للدولة في جهازها، والفترة الاستثنائية التي ترك فيها الوزارة هي عندما اختير عضوا بمجلس الشورى لمدة أربع سنوات ثم عاد إليها ليوثق رسوخه فيها بتعيينه مساعدا لوزيرها. ?? المرحلة الرابعة أسماها «التأهيل» وهي مرحلة دراسته بأمريكا إلى جانب عمله بالسفارة، وقد حكى فيها عن تجربته بالغربة، وهي تجربة تختلف كثيرا عن الغربة في بلد عربي وقد جرت فيها كثير من الأحداث المشوقة والمؤثرة التي كان لها تأثير بليغ على مجريات أيامه القادمات. ?? المرحلة الخامسة «الانطلاق» وتناول في هذا الفصل تجربته عندما عاد إلى جدة قادما من الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أن أنهى دراسته العليا وهي –كما قال- عودة تختلف عن عودته الأولى عندما رجع من القاهرة.. هذه المرة عاد برؤية أخرى، وبتجربة أعمق وربما بأشجان أوفر.. فكلما عرف الإنسان الحياة وسار في دروبها تكشفت له أمور وأحداث بقدر ما تعمق نظرته للوجود بقدر ما تكثف تأملاته وبخاصة إذا كان الإنسان - مثل المؤلف - يمتلك قلبا رقيقا، وحساسية شديدة، ومثل هذه النظرة تلون بعض أيام حياته بشيء من الألم إلا أنها توشحتها بعميق الرؤية، وسداد الرأي وإدراك سر الحياة ومباهجها، مما كان لذلك أكبر الأثر ليس على حياة المؤلف ولكن على صدق تعامله وضياء إنسانيته، وجميل تعامله، وهي سجايا عرفها كل من أسعده الحظ بمعرفة الدكتور نزار أو صداقته أو زمالته. ??? الفصل السادس والأخير «الحصاد» هذه المرحلة هي مجيئه إلى الرياض التي قضى بها أطول فترة في حياته ولم يكن -كما قال- يتوقع ذلك لكن الإنسان يريد والله يفعل ما يريد.. وهذه المرحلة -كما وصفها- مرحلة الحصاد فقد تقلب فيها بين عدة مناصب توجت بتعيينه وزيرا، وقد جنى في هذه المرحلة «الثمار» حيث ظل يغرس بذورها فيما سبق من محطات في وديان حياته، وقد تناول في هذا الكتاب تجربته الثرية بوزارة الخارجية، وأصعب مراحلها مثل: مرحلة أحداث ??سبتمبر بأمريكا. كما تحدث عن رؤاه وآرائه التي استخلصها من خلال عمله بالوزارة والشورى ومعترك الحياة. ?? بعد هذا الاستعراض السريع لفصول هذا الكتاب ومحطاته أقف عدة وقفات مع هذا الكتاب وسيرة حياة مؤلفه. «المولود الذي أشاع الفرح» ?? هناك مواقف شديدة التأثير رواها المؤلف برؤية الإنسان، وعمق نظرة المؤمن منها عندما رزقه الله بمولود جديد هو آخر العنقود «عبد العزيز» بعد ستة عشر عاما وقد أزاح قدومه كثيرا من الألم الذي مر عليه وأشاع السعادة في أعماق نفسه وزوايا بيته، وقد حكا قصة قدوم هذا المولود بكلمات تقطر إيمانا وتفيض ارتياحا. ? الشخصيات وما لا يعرفه الناس عن الأمير سعود ? لقد تحدث عن الشخصيات التي عرفها وتعامل معها مثل سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية.. تحدث عنه - بكل صدق - وكشف للقارئ عن بعض «الجوانب الإنسانية» التي تعتمر شخصية الأمير سعود والتي لا يعرفها الناس عنه، فقد عرفوه وزير خارجية بلاده بوصفه مسؤولا ناجحا، ورجلا جادا وسياسيا محنكا، ولا يعرفون عنه «ملامح إنسانيته» وأن بين جنبيه قلبا رقيقا، وأن لسانه الذي يلقي الخطب السياسية الحادة، هو ذات اللسان الذي له تعليقاته الطريفة والجميلة. أسلوب المؤلف ?? دائما الكتاب أو المقال أو القصيدة أو أي عطاء ثقافي يستطيع أن يجتذب عقل قارئه بالفكرة الجيدة، ويجذب قلبه بالأسلوب المشرق.. وهذا هو ما تميز به كتاب «دبلوماسي من طيبة».. إنه يشدك إلى أسلوبه وفصوله عقلا وقلبا ومشاعر جاعلا القارئ يعيش مع الكاتب في جميع مراحل حياته ولحظات فرحه وأحوال شجنه ومحطات تنقلاته. التوثيق بالصور ? أحسن المؤلف بتوثيق كتابه بالصور بوصفه كتاب مذكرات، فالصور تعضد وتوثق الكثير من مراحل حياته، وتجعل القارئ يقرأ الصورة وتعبيراتها مثلما يقرأ كلمات الكتاب وسطوره.. وقد ظللت أتأمل صورة المؤلف وهو دون العاشرة وأقرأ نظرات عينيه وهي تتطلع إلى الأمام وما كانت تدري أو يدري صاحبها ماذا تخبئ له الأيام في فضاءاتها القادمة. رسالة مؤثرة ? من أبلغ ما قرأت في هذا الكتاب تلك الرسالة التي حملت حكما «لقمانية» -إن صح التعبير- لخص فيها المؤلف فلسفته في هذه الحياة بعد أن نعم بوهجها واحترق بهجيرها.. بعد أن ذاق صعابها، واستمتع بصباها.. لقد وجهها إلى أبنائه وإلى شباب وطنه وهذه الرسالة بل الكتاب كله موجه إلى الشباب وهم يخوضون غمار الحياة، بدءا من مراحل دراستهم مرورا إلى محطات عملهم، إن الكتاب «تربوي» قبل أن يكون أدبيا أو سياسيا أو ذاتيا.. إنه جدير أن يقرأه كل شاب في مقتبل عمره فهو يحمل «تجربة إنسان» جد وتعب ومرت عليه الكثير من الأفراح والعقبات والأكدار ولكن تغلب عليها بفضل وعون الله وكانت المحصلة نجاحه ووصوله إلى أعلى المناصب. ??? إن الكتاب خطاب جديد في دنيا المذكرات التي قليلا ما أقرؤها، لأنها تعتمد على تمجيد المؤلف لنفسه وكأنه ملاك لم يرتكب خطأ ولم يواجه عثرة.. بل تجده يعرض حياته وكأنها حياة مثالية، عملا وتعاملا ونجاحا وتألقا، المؤلف - في هذا الكتاب- كان صادقا وهو إن لم يكن قال كل الحق - بحكم ائتمانه على عمله وعلاقات وطنه وبحكم تكوين شخصيته - فهو دون فيه الحق فيما كتب وسطر.. ولم أستمتع بكتاب مذكرات كما استمتعت بقراءة مثل هذا الكتاب ولم يضاهها إلا متعتي بقراءة كتاب «حياة في الإدارة» للوزير والسياسي المعروف الدكتور غازي القصيبي، فكلاهما كتابان يشدان عقلك وقلبك وجميع حواسك. - المذكرات أمانة - والتأليف رسالة - والحرف مسؤولية أمام الأجيال.