ودع أهالي الظبية في منطقة جازان رائدا من رواد العلم والتربية، إنه الشيخ الجليل حسين بن علي العماري الذي وافاه الأجل في مدينة الظبية بعد مرض أقعده عدة سنوات، ولكنه كان صابرا محتسبا أثناء مرضه قليل التردد على المستشفيات. كان الفقيد رحمه الله من خيرة رجالات المجتمع علما وورعا وزهدا في ملذات الحياة الدنيا، وكان الورع يمنعه أحيانا من التظاهر بالعلم حتى أنه يصغي لطلاب العلم عندما يتحدثون في مسائل العلم وهو بها أدرى. عرفته قبل أكثر من خمسين سنة عندما كنت جنديا في مدينة جازان وتتلمذت عليه، فكان نعم المعلم والمربي الذي أحببته وأفدت من علمه وأخلاقه وطريقته الرائدة في التربية. وقد تحدثت عنه في كتاب (رحلة الثلاثين عاما) وذكرت عنه حادثة تشبه الخيال تدل على ورعه واهتمامه بالكسب الحلال، ومن ذلك أنه ساعده البنك في يوم من الأيام وقال له جاءت لك حوالة بمبلغ كذا من فلان، فقال: لمدير البنك أنا لا أعرف أحدا بهذا الاسم والمبلغ يمكن أن يكون لشخص آخر، فأصر البنك على أن يستلم هذا المبلغ لأنه ورد باسمه فاستلمه، ولكن لم يطمئن فوضعه في خزانة لديه وصرف النظر عنه رغم حاجته الماسة، فهو صاحب أسرة يحتاجون إلى النفقة ومع ذلك ابتعد عن هذا المبلغ خشية من الوقوع في الحرام. وبعد مدة طويلة استدعاه البنك، وقال له: أنت استلمت مبلغا من البنك بطريق الخطأ والمبلغ لشخص يتفق معك في الاسم، وعليك إرجاعه، فذهب إلى بيته فاستخرج المبلغ من خزانته وجاء يحمله إلى البنك وكانت العملة قد تغيرت بإصدار جديد، فطلب منه البنك أن يدفع المبلغ وفق العملة الجديدة، فقال، أما هذا فلا فقد حفظته لكم وأرجعته إليكم كما استلمته ولم أتصرف فيه، فأعجب بأمانته مدير البنك وشكره على ذلك. أقول إن هذا العالم الجليل والمربي الفريد مهما كتبت عنه فلن أوفيه حقه، فهو مدرسة تستحق أن يكتب عنها مؤلف كامل، فرحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته. وقد رثيته بأبيات لا ترقى إلى مقامه، ولكنها خطوة على درب الوفاء فأقول: عجزت لهول وفاتك الأوزان ... وتقاصرت دون البيان لسان وتنهدت منا القلوب توجعا ... عصفت بها الآهات والأحزان لما نعيت إلى الأحبة أقبلت ... أفواجهم تنتابها الأشجان ولهم عليك من الفراق توجع ... أفضى بها الأولاد والإخوان عرفوك رمزا للعلوم متوجا ... بالمكرمات يزينها الإحسان وتواضع في عفة ما شابها ... صلف ولا عصفت بها الأزمان كم مجلس للعلم قد أحييته ... وتقاطرت لرحابك الأقران ولقد عرفتك زاهدا متعبدا ... يختال في جنباتك الإيمان قد كنت في (جازان) أنبل رائد ... تنمو بمثل عطائه الأوطان واتخذت من صبياطريق موجه ... تهدي السبيل فيهتدي الحيران وأقمت مرفوع الجبين معلما ... للخير في دار بكم تزدان في (الظبية الفرعاء) طاب مقامكم ... وتحدثت بوفائك الركبان على دروب الخير تستبق الخطى ... يحدو بها للمكرمات بيان لله درك ناصحا وموجها ... نشطت بحسن أدائك الأذهان وتفتحت سبل الحياة لمعشر ... أعددتهم فتكامل البنيان قد كنت كالبدر الذي يهدي لهم ... نور الطريق فيظهر البرهان. فحباك رب الكون أفضل منزل ... حلت به الرحمات والرضوان.