إن من حكمة الله عز وجل أن يقبض العلم في آخر الزمان، وكما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء».أخرجه البخاري ومسلم. لقد فقدت أمتنا الإسلامية صرحا من صروح العلم، ومنبرا من منابر الدعوة، ومثالا من أمثلة دماثة الأخلاق وحسن التعامل. رحل شيخنا العلامة: عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، ذاك العالم الذي باع نفسه ووقته من أجل تعليم الناس وتفقيههم في أمور دينهم. لقد شرفني الله عز وجل بخدمة هذا الشيخ الجليل رحمه الله رحمة واسعة سنوات عدة فترة عمله برئاسة الإفتاء رغبة منه وبتوجيه من الشيخ عبد الله بن ردن البداح (رحمه الله) مدير عام الشؤون المالية والإدارية برئاسة الإفتاء آنذاك إلى أن أحيل الشيخ على التقاعد بتاريخ 1/7/1418ه. في بداية عملي مع الشيخ اقترحت عليه رحمه الله بأن يتم تصوير الفتاوى التي تصدر منه لنشرها حتى تعم الفائدة لعموم الناس فوافق الشيخ على هذا الاقتراح، فسررت بذلك فقمت بتصوير وطباعة وترتيب الفتاوى التي تصدر من الشيخ بالتعاون مع أحد طلبة العلم ، وبعد أن أجازها قمت بإخراجها في كتابين ولله الحمد ومنها كتاب أسميناه (النخبة من الفتاوى النسائية) والكتاب الآخر (اللؤلؤ المكين لفتاوى ابن جبرين) وهما موجودان حاليا في الأسواق. وأذكر مثالا من أمثلة جهود الشيخ العظيمة التي كان يبذلها في دعوة الناس وتعليمهم: فعندما كان الشيخ رحمه الله في رحلة دعوية إلى المنطقة الجنوبية عام 1416ه بتوجبه رسمي من مفتي عام المملكة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله تعالى)، وكنت برفقته مع أحد طلبة العلم، وزار في هذه الرحلة بعض القرى كقرية المجاردة وبارق وثربان وغيرها من المناطق الجنوبية، واستمرت هذه الرحلة مدة أسبوع، وحظيت بإلقاء المحاضرات والدروس والكلمات التوجيهية والنصح والإرشاد للمسؤولين والموظفين في الدوائر الحكومية بتلك القرى. وقد لمست من الشيخ (رحمه الله) في هذه الرحلة الحرص الشديد على إنهاء ما بيده من أعمال، حيث كان يقرأ في كتاب كبير الحجم، تبلغ عدد صفحاته أكثر من ألف صفحة، فكان يقرأ فيه من بداية رحلته في الطائرة وفي السيارة وفي مقر إقامته. وفي يوم من أيام الرحلة ذهبنا إلى إحدى القرى ليلقي فضيلته محاضرة في إحدى المدارس، وكانت تبعد هذه القرية عن مقر إقامة الشيخ ما يقارب 40 كيلو مترا، وكان معظم الطريق وعرا جدا، فشد انتباهي لما عدنا إلى مقر إقامة الشيخ عند الساعة الثانية عشر ليلا أن الشيخ جلس في غرفته يتابع القراءة في الكتاب الذي كان يقرأ فيه من بداية رحلته، مع أنه كان مرهقا إرهاقا شديدا بسبب الجهد الذي بذله في ذلك اليوم. وبعد ذلك توقف عن القراءة وشرع في صلاة التهجد، وكان ذلك الوقت الساعة الثانية ليلا. وكان رحمه الله يمتاز بالسرعة في إنجاز الأعمال، فمن ذلك أنه كان عضوا في الإشراف على البحوث التي تنشر في مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن رئاسة البحوث العلمية والإفتاء من عام 1403، وكنت أكلف من قبل إدارة البحوث بالرئاسة بعد تقاعد الشيخ بإيصال البحوث له في منزله، وكانت هذه البحوث تصل إلى خمسة أو ستة بحوث فيقوم بقراءتها قراءة كاملة ويدون ملاحظاته ومرئياته عليها، وبعد الانتهاء من مراجعتها يتم الاتصال بي لإعادتها إلى إدارة مجلة البحوث، ويعد محضرا يوقع من قبل أعضاء لجنة الإشراف. وكان رحمه الله حريصا على المحافظة على الدوام فعندما توفيت زوجته أم محمد (رحمها الله رحمة واسعة) حضر إلى العمل في اليوم التالي. ومن الصفات التي كان يتحلى بها فضيلته كثرة الإحسان إلى الناس، وخاصة الفقراء والمحتاجين، سعوديين وغير سعوديين، رحيم بهم وكان يشفع لكثير من الناس لقضاء حوائجهم المختلفة، فمنهم من يشفع له لوفاء دينه، ومنهم من يشفع له في سداد إيجار مسكنه، ومنهم من يشفع له لمواصلة دراسته الجامعية، ومنهم من يشفع له في وظيفة، وغيرها من الشفاعات الحسنة التي يرجو بها الشيخ التقرب عند الله (سبحانه وتعالى)، كما قال عليه الصلاة والسلام : (اشفعوا تؤجروا). ومن أمانته رحمه الله في العمل أنه لا يخرج من الرئاسة إلا بعد خروج جميع الموظفين. وكان قبل الخروج يقوم بنفسه بإطفاء الإنارة في الممرات التي يمر عليها بمبنى الرئاسة. وكان على جانب كبير من الصبر على المراجعين وكثرة أسئلتهم، فكان رحمه الله يرد على الهاتف تارة، ويكتب بيده الإجابة على الأسئلة المقدمة إليه من المراجعين تارة أخرى. ومما اتسم به رحمه الله أنه يداوم على حضور الجنائز والصلاة عليها في جامع الأمير عبد الله بن محمد بعتيقة. هذا شيء يسير مما كان يقوم به فضيلة شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين (رحمه الله) من أعمال وجهود مباركة جعلها الله في ميزان حسناته. أسأل الله أن يغفر لشيخنا مغفرة واسعة وأن يدخله فسيح جناته، وأن يجعل ما قدم لطلبة العلم وعامة المسلمين في موازين حسناته، وجعله ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. * إدارة البحوث العلمية والإفتاء