الحوار مع الناقد محمد العباس، يعيد تعريف الناقد، ويرسم صورة مغايرة، فهو سواء اتفقنا أم اختلفنا مع آرائه، يقدم لنا المبدع الناقد، أو الناقد المبدع، الذي يعيد اكتشاف النص، ويرى أنه يقدم أحياناً نصاً موازياً، ليذكرنا ب"لذة النص"كما كتب عنها"رولان بارت". التقت"الحياة"العباس، في حديث تطرق إلى آرائه حول العديد من القضايا الأدبية، التي تعيش حال اشتباك مع النقد، وامتد بعضها ليشتبك مع آرائه النقدية على وجه التحديد، وإليكم نص الحوار: أنت متهم من البعض بالتعالي على الإبداع، وعدم خلق جو نقدي موازٍ للنص، وبرصد العموميات لجنس العمل الأدبي الذي تتناوله نقدياً -كالرواية على وجه الخصوص من دون غوص متعمق لاستجلاء عوالم وخبايا النصوص، ما ردك؟ - التعالي يعني عدم المقاربة للنصوص، والترفع عنها كأنها وباء، وهذا أمر لا أظنه ضمن تصوري للعملية الإبداعية، وأظنني من أكثر المشتغلين على النص المحلي بكثافة ومواكبة حد المطاردة، إيماناً مني بأن النقد فعل حب في المقام الأول، وأعتقد أن الشواهد تثبت هذا التشابك الحميمي مع المنتج بشكل عام، بل إن البعض يتهمني بعكس ما يتضمن سؤالك، وهو توليدي لنص موازٍ للنص الأصلي من دون التماس معه. وأظنها قراءات متباينة ومثمرة بالتأكيد، فالناقد كما تفترض الممارسة النقدية يكتب عن نصٍ غير النص المكتوب بالمعنى الفلسفي، أي النص كما أخضعه لقراءته الشخصية. أما إفراد مساحة نقدية أكبر للنص، فهو أمر يعتمد على استراتيجية الناقد إزاء المنجز الإبداعي، فالساحة تكتظ بمنتج كمي هائل في كل الألوان الإبداعية، وليس في الشأن السردي وحسب، ويصعب التوقف عند نص بعينه على حساب كامل المنجز، خصوصاً أن المؤسسات والمنابر الثقافية لا تسهم في تفعيل الممارسة النقدية، لتشمل ما ينتج من نصوص وفق مواكبة مدروسة، يمكن بموجبها أن يتحمل كل ناقد حصته من"الاشتغال الحفري في النص"، وإضافة إلى هذه الإشكالات، أعتقد أن تأويل النص ضمن شحنة من العناوين النقدية المرسلة، هي مسألة أسلوب، وأفترض أن القارئ لا يفترض به أن يقرأ ما كُتب عن النص، بل تشكل القراءة بوابة تعيده إلى قراءة العمل ذاته. هل تعيد حساباتك دوماً مع مكتسبات مفردات خطابك النقدي، وبعض مسلماته النقدية؟ - بالتأكيد، فالخطاب النقدي كغيره من الخطابات يحتاج إلى مراجعة وصقل، سواء على مستوى المنهج، أو اللغة، أو حتى المساحات المقاربة، ولا أعتقد أن أي ناقد حقيقي يمكن أن يركن إلى ما يسمى مسلمات نقدية، فالنقد عملية تأويلية في أصلها، وتقويضية في جوهرها، إذ ينهض على فكرة تأجيج الاختلاف وتنوع المقاربات، وهو أمر أراعيه على الدوام بملاحظة أسلوب الطرح، وشعرية اللغة المستخدمة، وإذابة المنهج قدر الإمكان داخل القراءة، وصولاً إلى منهج تبعيضي مركب، يمكن بموجبه افتضاض النص بقراءة ممتعة، تجعل من الخطاب النقدي شكلاً من أشكال الكلام الذي ينازع اللغة بلاغتها، ويمتص من الكتابة تعالياتها. لا مؤسسات ثقافية تساند المثقف صدرتْ كتبك عن عدد من دور النشر، هل تعترض الناقد صعوبات كالتي تعترض بعض الروائيين أثناء النشر، أم يعود ذلك لتنوع إنتاجك النقدي، وتنقلك من نقد جنس أدبي إلى آخر؟ - ما أعرفه أن الناقد أيضاً يتعرض لإشكالات كثيرة عندما يتعلق الأمر بالنشر، مثله مثل المبدع، خصوصاً حين يكون الناقد في بداياته، أو لا ينتمي لجهة مؤسساتية أو أكاديمية تساند منجزه، وهذه الصعوبات تتجاوز التداعيات الإجرائية إلى شيء من عدم الثقة بالمنجز أصلاً، وبالتأكيد يحتاج الناقد إلى فترة لتوطين اسمه وإقناع الناشر بجدارة منجزه، وكغيري تعرضت في البداية لشيء من هذا الابتزاز الصريح، لكنني تجاوزته بسرعة، فالرهان للمبدع والناقد على حد سواء، يكمن في جودة الانتاج واستمراره. أما انتقالي من جنس أدبي إلى آخر فهذا يرجع إلى اعتنائي بالظواهر الأدبية، وإيماني بتكامل الفنون، ولبحثي عن الكتابة ال?"لا مجنسة"، وأظن أن سؤالك الذي يسبغ على كتاباتي شيئاً من الحيوية، والتمدد في مساحات متباعدة، ينقض استفهامك السابق بشأن مسألة التعالي على المنجز، فاشتباكي مثلاً بقصيدة النثر كموجة متفردة في التسعينات، كان محاولة لقراءة ظاهرة إبداعية متجاوزة حينها، وكذلك هي الحال الآن في مقارباتي المتكررة لفهم تداعيات الظاهرة السردية وهكذا. هل يعيش مشهدنا النقدي حال تواصل مثمر مع المنجز النقدي الإقليمي والعالمي؟ وهل نمتلك دوريات نقدية يعتد بها، تمكن المهتمين من مواكبة حركة النقد العالمي؟ وهل وصلت بعض إسهاماتنا النقدية لمستوى النضج في رأيك؟ - بالتأكيد هنالك حال من التواصل مع المنجز النقدي العالمي، ولكنها تواصل المستهلكين، فكما نستورد المنتج المادي، نستورد أيضاً المنتج اللامادي، أي الثقافة بكل مظاهرها، فنستجلب الفكرة والنظرية والمنهج وهكذا، بمعنى أننا نعيش"مديونية"التعلم من الآخر، ونحن لا نترجم هذا الآخر، بل ننتظر من يترجم لنا إنتاجه، ولا نمارس أي محاولة لقراءة منتجه، بقدر ما ننشغل بمنجزنا، ولذلك تخلو دورياتنا من أي التفاتة جدية مواكبة لحركة النقد، الذي يكمن فيه سر تطور الأمم، إذ من الصعب"توليد سلالة من النقاد المتجاوزين"، في مجتمع غير ناقد أصلاً، لتظل كل محاولاتنا مجرد رغبة للفهم، لا ترقى إلى ارتفاع قيمة الخطاب النقدي كآلية"إفهامية". البعض يرى أن منجزنا النقدي لا يزال معظمه أقرب للطور التنظيري منه للنقد التطبيقي النشط، الذي يفعِّل دينامية المسار الثقافي، ما قولك في ذلك؟ - ربما ينطبق هذا التصور على بعض النقاد الذين تنازلوا عن النص، انصرافاً إلى التنظير، واستجلاب آخر طرازات التفكير النقدي من الآخر، ولكنه اتهام غير دقيق بالنسبة إلى طابور من النقاد الذين يحاولون توطين المعرفة النقدية، وتفعيلها بشكل تطبيقي، وعلى سبيل المثال اجتهادات عبدالله المحيميد في محاولاته لقراءة الظواهر الاجتماعية من منطلق"سوسيو - ثقافي"، وبالتحديد في كتابه"تقشير". المشكلة أن المشهد يمتلئ بصراخ المتبرمين من المبدعين، الذين لا يرون للنقد وجوداً لأنه لا يقارب منتجهم، فإذا ما طاولتهم الممارسة النقدية الجادة صرخوا:"ارفعوا صخور"رولان بارت"من على صدور نصوصنا، فالمبدع في مشهدنا على درجة من الهشاشة والالتباس في علاقته بالنقد". هل توجد ناقدات سعوديات يسهمن فعلياً في تشكيل حراك نقدي ولو على الصعيد المحلي؟ وفي حالة النفي، بم تعزو هذا الغياب؟ وكيف توصّف مقاربة الناقدة الأنثى عموماً للنص؟ - يمكن تشبيه الناقدة المؤهلة معرفياً وجمالياً، بالناقدة"فاطمة الوهيبي"، فهي على درجة من الجدية والكفاءة في مقاربة الإنتاج الإبداعي، إذ تشكل إضافة نوعية وضرورية للخطاب النقدي ليس في المشهد المحلي بحسب، بل في العالم العربي الذي يندر فيه وجود الناقدة، وهو أمر مفهوم من الوجهة التاريخية، فالمرأة لم تشتبك بالثقافة إلا في وقت متأخر، والنقد بوجه عام هو اشتغال معرفي جمالي على درجة من التعقيد، لا يطيقه إلا فصيل من"منتجي المعرفة". أما مقاربة الناقدة الأنثى للنص، فهي مسألة متوافرة بشكلها التنظيري المكثف والجدلي ضمن ما يسمى"بالنقد النسوي"، الذي يقوم على قراءة المنتج الأنثوي عبر التاريخ، وفي هذا الصدد برزت ناقدات على درجة من الجرأة والفطنة في مساءلة النص الأنثوي، كالناقدة"إلين شووالتر"مثلاً، القائلة بنظرية القارة المفقودة، أي الأدب الأنثوي الضائع أو المضيع. هل تعتقد أن صناعة الثقافة لدينا مازالت متورطة كما قيل، بإرث معطيات الترف المادي الذي أصاب بعض مفاصلها بالهشاشة؟ وإلى أي مدى تؤيد هذا القول؟ - الثقافة كمنتج مصابة ليس فقط بمعطيات الترف المادي، بل بجملة من الأمراض"القبلية والفئوية والمذهبية والمؤسساتية"، وفي تصوري أن القبيلة لم ولن تكف عن إعادة إنتاج نفسها في الحياة العربية، ما يصعب معه وجود مثقف حر مستقل، يعيش إرادته المعرفية والجمالية، فمعظم المثقفين يعيشون تحت وطأة العلاقة الملتبسة مع المؤسسة الثقافية، بالمعنى النفسي والموضوعي، ويلجأون إلى مرجعيات القبيلة والفئة والعرف وأوهام الامتثال الاجتماعي. والأمر ليس بهذه البساطة، فالتحليل"السوسيو - ثقافي"لواقع ومآل الثقافة، مسألة تحتاج إلى قراءة عميقة، وهو الجانب المعطل في المقاربات الفكرية المتعلقة بالمشهد الثقافي. الروائيون يفتقدون النضج والخبرة كيف تستشرف مستقبل الرواية المحلية؟ وهل ترى منجزاً روائياً يمكن أن يعول عليه في تشكيل امتدادات وتفرعات من الإبداع الروائي مستقبلاً؟ وما هي في رأيك أهم مسببات وهن تجربتنا السردية حتى الآن؟ - لا شك أن الاجتهادات الروائية ستصل بجانب من المنجز إلى إنتاج رواية حقيقية، ولو بعد حين، ولكن معظم هذا الكم الروائي لا علاقة له بفن الرواية، فليس من الضرورة أن تتحول الظاهرة الكمية إلى حالة نوعية، وهذه الفوضى الكتابية قد لا تكون خلاقة بالضرورة، أما أهم مسببات وهن التجربة، فتعود إلى كون المجتمع قرر أن يُروى عبر ذوات غير ناضجة، منعدمة الخبرة، فهي لا تكتب الرواية تحت مظلة فلسفية أو جمالية لأنها لا تمتلكها أصلاً. الرواية فن هدمي بنائي، وليس مجرد حكاية يومية، ممتلئة بكثافة المشاهدات، ونزق الذات الساخطة، التي تبالغ في إخضاع المجتمع تحت طائلة نقدية طائشة، فيما هي جزء من ذلك التمزق والاختلال. حتى مفهوم السرد أظنه غير متوافر في الكثير من الأعمال. الجميع يريد أن ينضم إلى نادي الروائيين، تجاوباً مع الظاهرة الإعلامية التي هزمت الظاهرة الثقافية، فما نعيشه روائياً ليس سوى كرنفال استعراضي لحماقات ذاتية، تحاول قسراً أن تصنف وجودها كروايات، وللأسف هنالك من انتبه متأخراً إلى جيل غاضب ومبعثر، فاستطاب أن يتبناه، ويعلن أبوته له، ليسهم في إضعاف الفعل الروائي، من دون إسهام حقيقي في خلخلة الأنساق الاجتماعية. هل لشعرائنا من خلال منجزهم الشعري، إسهام ولو ضئيل في تطوير القصيدة العربية، و"غربلتها"من شوائب النمطية؟ - تاريخ الشعر العالمي عموماً لا يحتفظ إلا بالقليل من الطفرات الشعرية، كالسياب مثلاً الذي شكل حضوره منعطفاً شعرياً - عربياً - من أهم المنعطفات، وضمن هذا المستوى من الإضافة الجمالية والفنية للشعرية العربية، لا أظن أن لنا إسهاماً يذكر، لكن بمستويات أقل توجد قصائد نوعية، وتجارب ذاتية مصغرة ولكنها لا ترقى إلى مستوى التأثير في القصيدة العربية، والسبب ليس فنياً في المقام الأول، بل يكمن في شمولية الآلة المنتجة للأفكار، وفي توافر فضاء معرفي جمالي مديد للتعبير عن الذات، لأن القصيدة ليست وليدة المزاج بقدر ما هي نتاج جملة من التراكمات وشبكة من التعقيدات الفكرية والاجتماعية والتاريخية. وما زلنا طرفاً ثقافياً على كل المستويات، ولم نتحول بعد إلى مركز منتج، مهما قيل عن انهيار المراكز ونهوض عواصم الظل والأطراف، فقصيدتنا في الغالب هي"مجرد مستعمرات نزارية أو درويشية أو أدونيسية أو بيضونية وهكذا". قصيدة النثر ذات الإشكالية الجدلية الملحة على الساحة الثقافية اليوم بوصفها أحد الأجناس الأدبية المستحدثة، يعبر عنها البعض بأنها أكثر تماهياً وحميمية والتصاقاً بمفردات الحياة اليومية، هل لهذا يمكننا إرجاع سر اهتمامك بها؟ - اهتمامي بقصيدة النثر لا يقتصر على فكرة التصاقها بحميمية اليومي، بل لأنها قصيدة تقوّض الكثير من تكلسات الذائقة، وتسجل اختراقاً ذهنياً وجمالياً داخل الوعي الشعري، فهي جنس إبداعي يحدث في المستقبل، ويكتبها إنسان أكثر مما يجترحها شاعر، بمعنى أنها صوت الحياة البكر، وليست قصيدة نيئة كما يحاول البعض وصفها"بهجائية تبخيسية"، وأتحدث هنا عن القصيدة المؤسسة على حس عميق بالحياة، المهتمة بفكرة الاهتداء إلى مكامن الذات، ودهاليزها المعتمة، والتعبير المكثف والإيجازي عن"الأنا"، لا عن القصيدة"المتعجلة الهبائية المتشبهة بالشعر والإبداع"، من دون أن تطاول جوهره. وأعتقد أنها جنس إبداعي لا يعيد تعريف القول الشعري وحسب، بل يهز القناعات الجمالية المترسبة في اللاوعي البشري. من هذا المنطلق أمتلك حماسة زائدة ناحيتها، وفي الوقت نفسه أحاول ألا أنقطع عن آخر منتجاتها الملحمية والسردية والشذرية والكولاجية، فمن خلالها أرى الكائن كما يحدث وينمو، ومن خلال ذلك الهاجس التعبيري، أشعر أنني حاضر بقوة في الحيز الإنساني، إذ أرى الفن الذي لا يقر التعالي على أي إحساس مهما كان بسيطاً أو حتى"سوقياً"، الفن الذي دمر أوهام الطبقة ووجاهة الصالون، ببساطة الوعي الإنساني البكر للحياة.