والرواية المعاصرة تأخذ مناحيَ عدةً من التجريب، أصدر عبدالعزيز النصافي روايته البِكر «أغنية قادمة من الغيم»، وعنوانها يشفّ عن مقدرة عالية على اللغة والتصوير. استطاع النصافي أن يرتقي بلغته وتصاويره البديعة ووصفه للمكان خاصةً إلى مستوى مُدانٍ لمستوى نزار قباني في نثره الأنيق، والمنفلوطي في لغته الحالمة، وأحلام مستغانمي في عباراتها الرومانسية، ولا أبالغ إن قلت: إنه باستفتاحه الرواية ووصفه للمكان جعل المتلقي يرتاب بين سطر وسطر؛ أيقرأ للنصافي أم لرسول حمزاتوف؟! وإلى جانب قدرته على التصوير البديع أظهر النصافي ثقافة أدبية واسعة جعلته يحشد الرواية بكثير من النقول الشعرية الفصيحة والعامية، والعبارات النثرية البليغة، وأسماء الشعراء، وعناوين الروايات وأبطالها، غير أنه أوغل في ذلك إيغالاً يحمل القارئ على أن يسأل: رواية أم مجموع أدب؟! حتى إن القارئ يتعثر أحياناً بأسلوب إيراده لتلك النقول وكأنه يستعرض معرفته الأدبية، فحيناً يدرجها إدراجاً سلساً على غرار قوله: «وأنقش بعيوني على وجه الماء قصائد الماء وحروف الماء، وأقول للحياة: واليوم أجلس فوق سطح سفينتي كاللص أبحث عن طريق نجاة». وكثيراً ما يسوقها بأسلوب استعراضي من قبيل قوله: «مسك العود وبدأ يعزف ويغني بصوته الفاتن رائعة الشاعر التونسي العذب أبو القاسم الشابي: يجيء الشتاء، شتاء الضباب شتاء الثلوج، شتاء المطر...». وعلى جودة اختياراته فإنه ليس من مهمة الروائي أن يعرّف بالشاعر وموطنه ويحكم على شعره إذا لم يكن لذلك داعٍ أو صلة بأحداث الرواية. ولئن استطاع النصافي أن يشد القارئ إلى روايته ويجعله يسعى سعياً ليبلغ نهاية الرواية؛ وذلك بفضل رشاقة لغته، وطرافة انتقاءاته الأدبية؛ فإن القارئ سيفيق في ختام الرواية من سكرة اللغة ليسأل عن شخصيات الرواية الأخرى تلك الشخصيات التي كان عليها مدار الأحداث، وعن أثر تلك الأحداث في نهاية الرواية. فشخصية «تاج السر» الأديب المثقف الذي يعمل فلاحاً في القرية شخصيةٌ مثيرة كان ينبغي للنصافي استثمارها وأن يجعلها شخصية نامية، وكذلك شخصية زيد الذي اعتزل الناس ولجأ إلى الجبل مبتعداً عن حياة القرية شخصية كان من الأولى استغلال أحداثها. إن الانتقال المفاجئ من تصوير الأحداث في القرية إلى علاقة الحب التي نشأت بين خالد ونمارق قد جعل الرواية روايتين؛ الأولى رواية تصوّر الأحداث التي وقعت في القرية، والرواية الأخرى تصوّر علاقة الحب بين خالد ونمارق، التي انتهت أيضاً نهاية عادية لم يشفع لها سوى اللغة الأنيقة التي وُهبها النصافي.