المطالع لرواية "أغنية قادمة من الغيم" للكاتب عبدالعزيز النصافي والصادرة عن دار رشم يرى أن كاتبها يسعى إلى تغيير الشكل الفني للرواية وتحطيم البنية التقليدية في الكتابة الروائية ويجعلها قابلة لتحولات عدة وانزياح في لغة السرد إلى الشعرية، ممّا خففت من انفعالات الشخصيات؛ لأنَّها بروحٍ شاعرة ومكان يكبح جماح الانفعال وهو القرية، فالرواية مكتوبة بضمير المشارك بين البطل خالد والراوي بضمير الغائب، يظهر في الجزء الأول من السرد وهو يتحدث عن القرية الوديعة التي توقظها الأغنيات والعطر والشجر ويكثف الحوار بين الشخصيات "تاج السر وصابر وفضل الله وعبدالحليم وإسحاق" الذين تجمعهم جلسات القهوة والشعر، ويقابلهم كبار السن "عويقل ورويشد ومرزوق وعياد ومستور" الذين يحكون الحكايات، وما نلاحظه أن الكاتب دفع بالشخصيات بشكل مكثف مرة واحدة في سرده، وحوارهم المحاط بالشعر وقصة كل قصيدة، وهنا نجد أن العتبات النصية التي وظفها النصافي كلها نصوص شعرية لشعراء سعوديين ك "جاسم الصحيح ومحمد إبراهيم يعقوب ومستورة العرابي" مرتبطة بالمتن السردي وأحداثه التي دفعها الكاتب بإيقاع بسيط نحو الحبكة التي انتهت بحسن تخلصه من الشخصيات، وبمعنى أدق: إنّ البطلَ خالد اختفى وراء قصص قريته وأصدقائه ثم تخلّص منها عبر توظيف القصة المتوالية وهو أول مظهر بنيوي في الرواية فكلما انتهى من قصة دخل بقصة أخرى وكأنَّه لا يريد لروايته أن تنتهي، وهذه القصص مرتبطة بقصة عاطف واختراعه المثير لإنارة القرية عبر الإفادة من الصواعق لتوليد الطاقة الكهربائية، لكنَّ السُحبَ خذلته وأشعلت نيرانها في الجبل ومات بعض أهل القرية بفعل ما سمّاه الكاتب ب "الغيمة الغاضبة" والتي كانت مسؤولة عن تحول أحداث القرية وتفرّق شخصياتها، عاطف رحل ولم يعد، زيد عاش في غار ثم اختفى، تاج السر ذهب إلى السودان، وثم يشرع البطل بالظهور بقصص جديدة وهي ثيمة الرواية الأساس "الحب الذي خذله الشعر"، إذ يروي خالد قصة آخر ما تبقى من قريتهم التي أعلنت عن لعنة الفراق والقصيدة التي تشعل نار الفتنة، وذلك لما حدث مع صديقه بندر المفتون بهديل والمتهم بجرم العشق المتلبس به عندما أرسل قصيدته إلى حبيبته هديل الساكنة في قرية تجاور قريتهم فيقول خالد: "خرج من عندي وفي غفلة مني ومنه قبضوا عليه عائلة هديل وقبل الضرب بدأ سيل التحقيقات معه! كيف عرفت هديل ومتى عرفتها؟ واجه بندر أسئلتهم بأسئلة: هل توجد فتوى تحرم الحب؟ هل لدينا قانون يجرم قصائد العشق؟ وما إن انتهى بندر من سؤاله الأخير حتى تعرض لصفعة من سامي وركلة من سعود وطعنه بسكين حادة في كتفه الأيمن من غازي، تركوه ملقى على الأرض والدم يسيل بغزارة منه وآثار الضرب دخل في شبه غيبوبة ونقل إلى المستشفى" ص 84. النص يستعرض مشكلة اجتماعية مازالت جذورها عالقة في ذهنية المجتمعات المشرقية وهي تهمة الحبّ التي تستوجب قتل المحبّ، مع أن العرب أكثر الشعوب المجيدة للعشق بدليل تعدد دلالته وأسمائه في لغتنا العربية لكن ترفضه بدواعي الشرف والتقاليد وكلّ القصص تفجرت منه فهذا التناقض رصده النصافي عبر اللاوعي في الجزء الأخير من الرواية. الحدث السردي المنتهي بموت بندر وحياة عشقه استطاع أن يغير الإيقاع الروائي من جهتين أحدهما فنية عندما تخلّص الكاتب من آخر شخصياته؛ لينفرد بعرض قصته والأخرى المضمون الذي انتصر للحب وهو في قصور الخيال. وكأنَّ الرواية شرعتْ بجزءٍ ثانٍ ونصنفها بالرواية الرومانسية التي تتألف من بطلين هما: خالد ونمارق البدوية الساكنة في خيام أسرتها من البدو، وتقرأ للدكتور عبدالله الغذامي حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، والشعر والصحف وتحاور بتمرد، فالكاتب اختار بطلته العاشقة من البدو، وأعطاها مركزية عالية في المتن السردي، فهي عاشقة ومفكرة ومتمردة تسكن في خيمةٍ، وهذا انزياح بوجهة نظر الكاتب عندما خلّص المرأة من النمط التقليدي الذي كان يحرمها من التفكير ويحبسها بزاوية الجسد، فالنصافي جعل من شخصية المرأة نمارق تتحرك في رواياته بسلطة مطلقة وبذات متكاملة، وبفكر مكتنز بالوعي النقدي وهذا يظهر في حوارها الهاتفي مع البطل خالد: "وربي استفزوني، وربي ما أطيق أنصار الأدب الاسلامي وأعتبرهم في قمة التخلف، وأتفق مع من يقول: إنهم جروا عربة الإبداع والجمال المنطلقة من الأمام إلى الخلف. لكن ودي أكتب على صفحة السماء: قبح الله من كشف سره في سيرته الذاتية، وقبح الله من شتم والده، وقبح الله من تطاول على الذات الإلهية" ص 120. المتأمل للنص يرى ضمير الأنا الأنثوي يسيطر عليه، ووجهة نظرها الناقدة تؤنث الذوق الأدبي وتحدد معياره، فالأدب الإسلامي المعاصر الذي جاءت به الرابطة وهو وأد لجمال الأدب وإنسانيته، والمرأة لا تجد نفسها فيه؛ لأنه يعجُ بتراب الرؤية الأحادية فرفضتها نمارق، والبطل خالد مستمع لفكرها لا لحكايتها، فالمرأة كما معروف عنها متقنة الحكاية كما رسختها الثقافة، لكن الكاتب عبدالعزيز أرادها أن تلبس عباءة الفكر وتخرج بها إلى مجتمعها لا سيما أنه اختار بطلة روايته من قلب مجتمعه ولم يهاجر بها إلى مجتمع آخر لتتكلم، وإنما من داخله استطاعت أن تنمو وتثمر وتفكر وتجادل وتخرج من شرنقة الصحراء لتكون فعلاً ثقافياً يُمدن الحياة الاجتماعية، والنصافي يعكس رؤية عالم عن المجتمع والثقافة والأمكنة التي عاشها ولم يشر إلى أسمائها؛ لأنّها بروح متشابهة حتى وإن اختلفت مسمياتها. الرواية بشعرية عالية فهي تتصادم بالمجاز والصور ويكثف الكاتب من حضور الشعر والشعراء وقصصهم وأظن روايات الأجيال الشابة السعودية سوف تؤسس لشكل جديد في الرواية العربية والسعودية؛ لأنّي قرأت لبعض الكتّاب والكتابات ولاحظت أن الشعر والشاعرية يحضران بقوة في السرد ويغيران شكل كتابته. *ناقدة عراقية د. موج يوسف *