ابتهاجاً بذكرى مرور 3 قرون على إقامة الدولة السعودية.. اقتصاديون وخبراء: التأسيس.. صنع أعظم قصة نجاح في العالم    تمنت للسعودية دوام التقدم والازدهار.. القيادة الكويتية: نعتز برسوخ العلاقات الأخوية والمواقف التاريخية المشتركة    لا "دولار" ولا "يورو".." الريال" جاي دورو    تعزيز الابتكار في صناعة المحتوى للكفاءات السعودية.. 30 متدرباً في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالإعلام    الاستثمار العالمي على طاولة "قمة الأولوية" في ميامي.. السعودية تعزز مستقبل اقتصاد الفضاء    مذكرة تعاون عربية برلمانية    الصندوق بين الابتكار والتبرير    حاصر جنازة الشهيدة الطفلة ريماس العموري "13 عامًا".. الاحتلال يتوسع بسياسة الأرض المحروقة في الضفة الغربية    رئيس "النواب" الليبي يدعو لتأسيس "صندوق" لتنمية غزة    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. سمو ولي العهد يشرّف حفل سباق الخيل على كأس السعودية    الاتحاد يدك شباك الهلال برباعية    " فوريفر يونق" يظفر بكأس السعودية بعد مواجهة ملحمية مع "رومانتيك واريور"    ضبط وافدين استغلا 8 أطفال في التسول بالرياض    جدة التاريخية تحتفي بيوم التأسيس وتحتضن فعاليات ثقافية وتراثية متنوعة    بناء على ما رفعه سمو ولي العهد.. خادم الحرمين يوجه بإطلاق أسماء الأئمة والملوك على ميادين بالرياض    هيئة الصحفيين تدشن هويتها الجديدة    في ذكرى «يوم بدينا».. الوطن يتوشح بالأخضر    موافقة الغذاء والدواء شرط للإعلان عن المنتجات الغذائية    مشروبات «الدايت» تشكل خطراً على الأوعية    جيسوس يُبرر معاناة الهلال في الكلاسيكو    موعد مباراة الإتحاد القادمة بعد الفوز على الهلال    الوسيط العالمي الموثوق به    النفط يسجل خسارة أسبوعية مع تلاشي المخاطر في الشرق الأوسط    الراشد: اعتماد رمز عملة الريال السعودي خطوة تاريخية تضيف علامة تميز لحضور المملكة دولياً    الرافع للرياض : يوم التأسيس تاريخ عريق    نهج راسخ    الملك: نهج الدولة راسخ على الأمن والعدل والعقيدة الخالصة    "نيوم للهيدروجين الأخضر" تبني إرثاً مستداماً باستغلال موارد المملكة التي لا تنضب    بوتين يشكر ولي العهد على استضافة المحادثات مع أميركا    في افتتاح كأس قدامى الخليج.. الأخضر يتعادل سلبيًا مع البحرين    جمعية رعاية الأيتام بضمد تشارك في احتفالات يوم التأسيس    سفير الاتحاد الأوروبي يحتفل بيوم التأسيس    الأحساء.. الاقتصاد المستدام والفرص الواعدة !    افتح يا سمسم.. أُسطورة الآتي..    بنزيما: الاتحاد ليس قريبا من لقب الدوري    من التأسيس إلى الرؤية.. قصة وطن    مسؤولات جمعية كيان للأيتام يهنئون القيادة الرشيدة بيوم التأسيس    أهالي القصيم يعبّرون عن فرحتهم بالملابس التراثية    «الداخلية» تطلق مبادرة «مكان التاريخ»    125 متسابقاً يتنافسون على جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن.. غداً    وزير الشؤون الإسلامية: يوم التأسيس يجسد مرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ مسيرة المملكة    فجر صناعة السيارات في السعودية    «الفترة الانتقالية» في حالات الانقلاب السياسي.. !    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي ينجح في زراعة منظم ضربات القلب اللاسلكي AVEIRTM️ الحديث ل"ثمانيني"    الحياة رحلة ورفقة    منيرة آل غالب إلى رحمة الله    إسرائيل تؤجل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين    فريق الوعي الصحي التابع لجمعية واعي يحتفي بيوم التاسيس في الراشد مول    عقد ورشة عمل "الممارسات الكشفية للفتيات في الجامعات"    «الدباغ القابضة» تتقدم بالتهاني لمقام خادم الحرمين وولي عهده بمناسبة ذكرى يوم التأسيس    ضبط أكثر من 21 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    أسرة حسام الدين تحتفي بعقد قران أحمد ويوسف    انخفاض درجات الحرارة في عدد من مناطق المملكة    الدولة الأولى ورعاية الحرمين    لائحة الأحوال الشخصية تنظم «العضل» و«المهور» ونفقة «المحضون» وغياب الولي    غبار المكابح أخطر من عادم السيارات    السعودية منارة الأمل والتميز الطبي    السعودية من التأسيس إلى معجزة القرن ال 21    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاياتٌ دافئة ذات زمنٍ جميل
نشر في عكاظ يوم 03 - 05 - 2024


محمد العلي: رمزنا الكبير، الشاهق كنخلة
شاعرنا الكبير، الرمز الحداثي الفذ، محمد العلي، صاحب (لا ماء في الماء).. التقيته أول مرة في 1986، في أمسية شعرية في مدينة الباحة -كنت حينذاك طالباً في الجامعة-.. كنتُ في معيّةِ شاعرنا الجميل علي الدميني، فيما اعتذرَ (سيّدُ البِيد) محمد الثبيتي في آخر لحظة؛ لظرفٍ طارئ، وهنا طلب المنظمون من أستاذنا العلي الذي كان حاضراً أن يحلَّ بديلاً عنه.
بعد أن أكملنا قراءتنا (الدميني وأنا)، توجه العلي مباشرةً إلى المنصة، وطلب من سعيد السريحي (مدير الأمسية) الكلمة، وإذْ به يقول: «بعد قصيدة عبدالمحسن (السفينة الحجر) لن أقرأ شيئاً من قصائدي»، ثم قال بحقِّي كلاماً فاتناً مقتصداً أخجلني، وهو الذي لا يغدقُ المدائحَ على أحد، ثم عادَ بهدوءٍ إلى مقعدِهِ بين الناس.
كان أستاذُنا في منتهى التواضع والجمال والعذوبة.. وحين سهرنا بين يديه، وتحديداً على ضوءِ فتنتهِ في (موتيلات) الباحة، المدينة العالية، الهادئة، والباردة رغم سطوةِ الصيف.. حلَّقَ عالياً وهو يدندنُ بصوتٍ فخمٍ مسكونٍ بالشجنِ، هكذا: «يا مَرِيّة.. يا مَرِيّة».
في الصباحِ الباكرِ جدًّا والباردِ -أيضاً- وفيما كنتُ أطلُّ على مدينةِ (الباحة) الجميلةِ من عَلٍ متأمِلاً، وفيما كانت السيدةُ فيروز تملأ الأفقَ مصحوبةً برائحةِ أزهارٍ زكيّةٍ، لَمَحْتُهُ يتنزّهُ بهدوءٍ وهو يرتدي (الوِزْرَة)، أو الفوطة بلهجتنا، فوقها (فانيلة) بيضاء.. إذَّاك سألتُهُ متعجبًّا: أترتدي مثلنا نحن أهل جزيرة فرسان (الوِزْرَة)؟ أجابني بمرح، بلهجةِ أهلِنا في المنطقة الشرقية الحبيبة، هكذا: «كلنا بحّارة، يُبَهْ» !!..ومضى يكملُ نزهتَهُ الصباحيّةَ شاهقاً بقامةِ نخلة.
علي الدميني: الذي تنحني له أشجار القلب
أنا واحدٌ من تلاميذكَ يا سيدي، أدين لك بالفضل مُذْ كنتَ (ترعاني) بدأبٍ كما لو كنتَ تعتني بنبتةِ تينٍ صغيرةٍ في فناءِ داركم العامرة بالباحة.. لم أنسَ لطفك وعنايتك واهتمامك بنصوصي، لم أنسَ أمسيتنا الشعرية معاً في (الموتيلات) الأنيقة، لم أنسَ ذلك المشهدَ الذي ترك أثراً في قلبي وظلَّ راسخاً حتى يومنا هذا: إصرارك -وأنت الشاعر ذو القيمة والقامة والذيوع- على مسك (المايك) لأتفرغ أنا الفتى المرتبك للقراءة أمام ذلك الحشد الذي حضر أمسيتنا تلك الليلة.. أيضاً لم أنسَ حفاوتك -منذ ذلك المساء الذي يشبه الأعياد- بقصيدتي (السفينة الحجرية) ومناداتك لي (يا بوحجر) تلطّفاً ومحبةً وتشجيعاً وإعجاباً، كما لم أنسَ اهتمامك بنشر نصوصِ بداياتي الأولى التي كنتُ أرسلها لك بالبريد العادي من (جزيرة فرسان)، وأنا كنتُ حينها في المرحلة الثانوية.. نعم، فيما أنا محضُ بذرةٍ ضئيلةٍ في أرضِ الكتابةِ الفسيحةِ وأنت كنتَ لا تتردد أبداً في نشرها في (المربد) -ذلك الملحق الثقافي العظيم لصحيفة (اليوم)- الذي تنشر فيه لكبار المبدعين السعوديين والعرب الطليعيين، لم أنسَ أبداً إنك منحتَ نصّاً طويلاً لي -وأنا في تلك المرحلة، مرحلة البدايات- نصفَ الصفحةِ الأولى في ذلك الملحق المتوهج بلونه الأخضر الخفيف.. أخيراً أقول لك بكل الصدق الذي في الدنيا: تنحني لقبركَ أشجارُ القلبِ، يا أبا عادل..
غازي علي: المنسجم مع قناعاته المقمرة
قرأ قصيدتي (في مديح الصوت) في إحدى الصحف، وعلى الرغم من كونها (قصيدة نثر) إلا أنها راقت له، ومن فرط إعجابه بها بحث عن رقم هاتف البيت -قبل زمن الجوالات- وأجرى اتصالاً، ردت عليه المدام وأخبرته أنني مسافر..عَرَّفَ نفسَهُ؛ لتخبرني باتصاله فيما بعد.. مع ضغوط العمل الصحفي وكثرة المشاغل لم أتصل ولم ألتقِ به..
بعد وقتٍ ليس قصيراً التقيت به في احتفالية غنائية خاصة نظمتها صحيفة «عكاظ» وأحياها الفنان الكبير طلال مداح.. اقترب مني وعانقني بمودة غامرة، ولم أكن قد التقيت به من قبل.. حدثني عن اتصاله ليبوح لي بإعجابه ب(مديح الصوت).. قلت له: إنها قصيدة نثر، وأنت رجل تقطر موسيقى، فكيف أعجبك نص من دون قافية أو وزن أو إيقاع؟ ردَّ على الفور: لغتها وصورها والبوح المغاير للكلام السائد وموسيقاها الداخلية مفرداتٌ مهمة في تلك القصيدة.. أسرني حديثه الواعي بالشعر وشروطه المختلفة عن المتفق عليه..
ذلك موقف.. الموقف الثاني: ذات مساء فوجئت به يتصل بي على مكتبي في «عكاظ» يسألني عن رواية (وجع البعاد) للروائي جمال الغيطاني الصادرة في ذلك الوقت.. بلطفٍ شديدٍ قال: «قيل لي إنك قارئ رواية جيد، وقال لي أحد الأصدقاء ستجدها حتماً عند عبدالمحسن».. قلت له: إنها لديَّ فعلاً.. قال: أعرني إياها، وسأعيدها لك بعد أربعة أيام فقط.. وبعد أربعة أيام وجدته يعيدها لي مع الزميل علي فقندش..
إنه الملحن والمغني الشهير صاحب (في روابي قُبَا) و(شربة من ماء زمزم) و(أسمر حليوة) و(سلام لله يا هاجرنا) و(ونين) وسواها، وهو الموسيقار الكبير والعروبي الخالص والمثقف العالي غازي علي؛ الذي في سنواته الأخيرة آثر الصمت والتخلّي والاستغناء والعيش في الظلال متقشفاً، معتزلاً، زاهداً في النجومية والأضواء والشهرة، نائياً بنفسه عن كل المسالك التي تفضي إلى البريق والمال والذيوع غير النبيل..
الأستاذ غازي -الذي درس بالمعهد العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) بالقاهرة لمدة سبع سنوات- اكتفى بتدريس الموسيقى للموهوبين في بيته في مدينة «جدة»، منسجماً مع أفكاره وقناعاته ومبادئه المقمرة.
قاسم حداد: يدخل القلب كما يدخل الفرح
شاعرٌ كبيرٌ ومثقفٌ (خطيرٌ) وإنسانٌ رائع.. قبل سنوات -ليست بعيدةً- كنت بصحبته في أمسية شعرية في (سوق عكاظ).. قرأنا معاً على منصة واحدة، وقضينا وقتاً رائعاً صحبةَ الصديق العذب طلال الطويرقي في ربوع الطائف الجميلة.. في البدء عندما التقينا وجهاً لوجه في بهو الفندق وكان ذلك أول لقاء بيننا، ولكي أبدد أيًّ ضبابٍ أو بالتحديد لكي أكسر أي حاجز؛ ذكّرته بنصٍّ شعريٍّ قديمٍ له كنتُ أحفظه، قرأته في الثمانينات في مجلة (أقلام) العراقية، أذكر منه:
«قلتُ يا ذاتَ العيونِ الخُضْرِ،
يا طَعْمَ السَّفَرْ.
شرفتي تتسعُ اليومَ
لاثنينِ يُحبَّانِ السَّهَرْ.
وقَصَفَنِي المخفرُ السِّري،
قضاءً وقَدَرْ..
وتبادلْتُ معَ الموتِ الصُّوَرْ».
فما كان من هذا المفتون ب(نقد الأمل)، هذا الباحث الدؤوب عن (مكان آمن للحب)، إلا أن عانقني بدفءٍ كبيرٍ كما لو كان يعرفني منذ سنواتٍ، وهو يقول ضاحكاً: «تصدّق، محسن، كدت أنسى هذا النص».. وعندما حدثته عن قريةٍ صغيرةٍ لدينا في جزيرة فرسان اسمها (المحرّق)، ابتهج كثيراً واستعاد طفولته -وهو حقّاً طفلٌ كبير- متحدثاً بجمالٍ يأسر الروح عن (المحرّق) التي في بلاده أو في زرقته، عن صيد العصافير والأسماك واللهو في بساتين النخيل...إلخ.. عندما عاد إلى البحرين، كنا نتواصل هاتفياً عند السابعة صباحاً -من دون ثرثرة- حتى غادرها إلى دولة غربية في (منحة) للتفرغ للكتابة أو ما شابه.. مبدعٌ حقيقيٌّ هو قاسم حداد يدخل القلب هادئاً كما يدخل الفرح.
محمد رضا نصرالله: مثقفٌ كبير وطبّاخٌ ماهر
مثقفٌ كبير ومحاورٌ عنيد.. برنامجه التلفزيوني (الكلمة تدقُّ ساعةً) في أواخر السبعينيات -ولتصححوا لي إن كنتُ مخطئاً؛ لأن ذاكرتي أضحت مثقوبة- كان من تلك البرامج النوعية الباذخة، استضاف فيه كبار المبدعين والمفكرين العرب ووقف بمواجهتهم الند للند كما يُقال، وذهب إلى مدنهم وقراهم، كما فعل في الحلقة التي كانت تخص الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب حين ذهب إلى (جيكور) وحاور عائلته وابنه (غيلان).. وهو أيضاً صاحب رؤية نقدية عميقة، وكاتب زاوية صحفية ثرية تترك أثراً رائعاً في متلقيها.. وهو -علاوة على هذا- طباخ ماهر.. (عزمني) ومجموعة من الأصدقاء ذات نهار من تلك النهارات الفاتنة في بيته في الرياض، وأذكر جيداً أن الشاعر العراقي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد صاحب الديوان الأجمل (من أين هدوؤك هذي الساعة؟) كان واحداً من الضيوف وكذلك الشاعر المبدع سامي مهدي والناقد الكبير عبدالواحد لؤلؤة.. حدث ذلك بعد أصبوحتنا الشعرية معاً -عبدالرزاق وأنا- على منصة واحدة، وأدارها رضا نصرالله نفسه.. لقد كنا -ونحن نتناول الغداء- نتهامس: من أيِّ فندقٍ جاء بهذا الطعام الفاخر؟ وإذ به يقول وهو يبتسم ابتسامته المعهودة، وكأنه ضبطنا متلبسين ونحن (نحش) فيه: «أنا الذي طبخت هذا الطعام».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.