المايكروفون، مصدر رهبة وفزع، وزارع قلق وأرق، في نفوس من يواجهون هذا الجماد المرعب! هذا هو حال الناس مع المايكروفون، ولكن ما حال الشيخ جميل الحجيلان، مع المايكروفون؟ لقد نشأت علاقة عشقٍ خَفيٍّ بين جميل وبين المايكروفون! كيف نشأت هذه العلاقة؟ ومنذ متى؟! حسناً، سنعود إلى الماضي قليلاً... عندما كان جميل يدرس في جامعة فؤاد بالقاهرة، خلال العصر الملكي بمصر، كان الديوان الملكي، يستضيف في شهر رمضان الطلاب المسلمين الذين يدرسون في مصر، في مأدبة عشاء، «على شرف صاحب الجلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان»، كما في نص الدعوة التي يوجهها الديوان الملكي المصري، للنخبة التي يختارها لحضور المناسبة السنوية. وبالفعل بعث الديوان إلى البعثة التعليمية السعودية، برسالة طالباً اختيار ممثل للبعثة للمناسبة. وتشاء الأقدار أن يكون الطالب جميل في مقر دار البعثة ليستلم مكافأته المالية. مسؤولية اختيار ممثل السعودية لحضور العشاء الملكي، كانت من مهام موظف إداري اسمه هاشم برادة، وكان يتحدث مع المسؤول المالي إبراهيم الدباغ في الموضوع ذاته، التفت برادة على الطالب الحجيلان، وشرح له الدور المطلوب، ثم قال له: هل تستطيع أداء المطلوب؟! لم يتوان جميل، ولم ينتظر، ولا تردد بتاتاً، بل أجاب فوراً، وبسرعة، وثقة، وربما... باندفاع، قائلاً بحسم: نعم أستطيع! كان جميل يعلم أن كلية الحقوق، التي يدرس بها، تاريخياً هي مصنع السياسيين المصريين، وبها تخرج الكتاب والمحامون وصُنَّاع القرار، ولا يليق بطالب في كلية كهذه أن يتردد في القيام بدور كهذا! في المقابل، لم يهدأ ذهن جميل بعد خروجه من مقر دار البعثة التعليمية السعودية، إذا كانت الهواجس تمور بذهنه موراً، فاستحضر رهبة الحدث الذي أعلن بسرعة استعداده للقيام به. إنه الوقوف أمام جلالة الملك فاروق بقصر عابدين، ليس الوقوف بحضرة العاهل المصري فحسب، بل وإلقاء كلمة الطلبة السعوديين بمصر أمام الملك فاروق، بحضور حشد من كبار القوم من وزراء، وأمراء، وأصحاب الذوات! وأصبح تخيل الحدث بما يصاحبه من مراسم ملكية، ومواكب رسمية، وسيارات تحف بالموكب، ودراجات نارية، وأمن، وحراسات، تستدعي إخلاء شوارع القاهرة من الحركة والمرور. وبقيت تفاصيل المشهد في ذهن الطالب جميل تتزايد تفاصيله المهيبة، حتى تمكن منه القلق، فذهب لمقر دار البعثة السعودية، ليخبر الأستاذ برادة، باعتذاره عن المهمة! وفور وصول الحجيلان دار البعثة، قال له برادة الذي يعرف ما يحيط بهذا التكليف من مشاعر متناقضة، بسخرية: «هَوَّنت عن قصر عابدين؟!». وأيقظت سخرية برادة، العِزَّة والكرامة في نفس جميل، فأعلن أنه لم يتراجع عن المهمة بتاتاً! أعد جميل كلمته، فركز على العلاقات بين السعودية ومصر، مستنداً إلى زيارة الملك عبدالعزيز إلى مصر في 1946، والحفاوة الكبيرة التي استقبل الملك فاروق والشعب المصري بها الملك عبدالعزيز، شاكراً مصر على ما تقدمه للطلبة السعوديين الذين يدرسون في جامعاتها. حزن جميل لعدم حضور الملك المناسبة، فقد أناب عنه رئيس الديوان الملكي عبدالهادي باشا، وكان ترتيب كلمته خامس المتحدثين، فلما حان دوره، تفاجأ هو قبل غيره، بالهدوء المدهش والرصانة التي صاحبت إلقائه الكلمة أمام المايكروفون، في تلك الليلة. يقول جميل، عن قدرته على التعامل المميز مع المايكروفون، في المناسبة الآنفة: «كأني في صحبة زميل عرفته، وصديق ألفته. بل كان يخيل إليَّ أن لاقط الصوت فيه قد تحوَّل لوجهٍ باسم يغريني بالحديث معه، ويقول لي: بوركت من مُحَدِّثٍ بارع!». ما حدث لطالب الجامعة العشريني، كان بداية إرهاصة العشق الأولى بين جميل الحجيلان والمايكروفون. هل كان توق جميل للتفوق والتميز، هو الذي زرع الألفة [1] بينه وبين المايكروفون؟ حتى صار كل منهما للآخر «آلف من حمام الحرم» [2]، كما في المثل العربي. تُرى من الذي بادر الآخر برسائل الأمان والإلف والإيلاف؟! الأهم أنهما اتفقا على صداقة حقيقية، بلغت حدَّ العِشق. في شهر نوفمبر عام 2023، كرمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ممثلة بكلية الإعلام والاتصال، معالي الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان، أول وزير للإعلام بالمملكة العربية السعودية، على مسيرته الطويلة، وبعد أن امتد الحفل لساعة من الوقت، طُلب من الحجيلان أن يُلقي كلمة في حفل تكريمه، فوقف أمام المايكروفون وألقى كلمة مرتجلة امتدت لأكثر من 16 دقيقة، تنقل فيها من شكر القائمين على تكريمه، إلى العودة بذاكرته ستين عاماً، عندما عينه الملك فيصل أول وزير للإعلام في السعودية، وكيف كان هذا التعيين نقلة مهمة في حياته، مسترجعاً ما كانت البلاد تمر به من تأزم في العلاقة مع مصر، وما كانت المملكة حينها تتعرض له من هجمات شرسة وحملات شعواء، وكيف كان الفيصل حريصاً كل الحرص أن يوصي الوزير الحجيلان على ضرورة أن يكون الخطاب الإعلامي السعودي في مواجهة تلك الحملات، عفيفاً في مضمونه، بعيداً عن الإساءة للأشقاء. ولم ينس الحجيلان أن يستعيد ذاكرته مستذكراً يوم تعيينه ملحقاً ديبلوماسياً بوزارة الخارجية، في 1/1/1951م، قبل ما يزيد على 72 عاماً، وكيف كانت حال بلاده آنذاك، وكيف هو حالها اليوم، مؤكداً أنه خلال هذه المسيرة عايش كيف يسعى قادة السعودية ما استطاعوا أن يجنبوا بلادهم ما أصاب غيرها من البلاد من ويلات وأزمات. كان الحجيلان ينتقل في حديثه المرتجل من موضوع لآخر بسلاسة وانسيابية وبلاغة وإتقان، وقد بلغ يومها مائة عام من العمر، بحسب التاريخ الهجري، وهو ما يؤكد إنه لم يُفَرِّط في عشق المايكروفون، ولا تنازل عن الألفة التي تربطهما معاً. [1] الأُلفَة: الاسم من الائتلاف، وهو الالتئام والاجتماع. و: المحبة والإيناس. (معجم متن اللغة)، أحمد رضا، ج 1، ص 196. [2] آمن من حمام مكة، وآلف أيضاً. (جمهرة الأمثال)، لأبي هلال العسكري. ج 1، ص199. وآلف من حمام الحرم. مقدمة (طوق الحمامة)، لجلال الدين السيوطي.