يرى عالم السياسة الأمريكي الشهير «والتر رسل مييد»، أنه يمكن حصر توجهات السياسة الخارجية، الأمريكية بخاصة، عبر تاريخها، في أربعة توجهات (سياسية - عقائدية) رئيسة. وأن لكل اتجاه من هذه التوجهات الأربعة مضمونه، وفلسفته، ورائده وفيلسوفه من الرؤساء الأمريكيين الأوائل. لذلك، سمى كل توجه باسم رائده الأول - في رأيه. أي باسم أول رئيس اختط هذا التوجه، وتبعه بعض من أتى بعده من الرؤساء والمسؤولين الأمريكيين. وهذه التوجهات الأربعة هي: الجيفرسونية (نسبة للرئيس توماس جيفرسون)، والهاملتونية (نسبة لأليكساندر هاميلتون)، والجاكسونية (نسبة لأندرو جاكسون)، والويلسونية (نسبة لتوماس ودرو ويلسون). وقد تطرقنا، في المقال الفائت، لمضامين هذه التوجهات. (وسبق لصديقي المستشار أسامة يماني، أن كتب عن هذا الموضوع: «عكاظ»: 9 /12 /2022م، ص7). غير أن المراقب للسياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة لا بد - في رأينا - أن يرى وجود أكثر من هذه التوجهات السياسية - العقائدية الأربعة. من ذلك: ما يمكن أن نشير إليه ب«التوجه الصهيوني». **** وبمتابعة واقع، وحقيقة، السياسة الخارجية الأمريكية، نجد أن مبادئ هذه التوجهات تطبق بالفعل، وأن توجهاً معيناً من هذه التوجهات الأربعة، غالباً ما يسود، أثناء رئاسة كل رئيس أمريكي منتخب. ومما يجعل هذه المبادئ تحظى بكثير من الرسوخ، هو كون حكومة الولاياتالمتحدة تمثيلية، تقوم على المؤسسات. كما يلاحظ وجود تناقضات في هذه التوجهات، كثيراً ما تنعكس على السياسة الخارجية الأمريكية. وكثيراً ما وجدنا تطبيق مبادئ أكثر من توجه واحد في ذات الوقت. المهم، أن الإطار النظري للسياسة الخارجية الأمريكية كثيراً ما يكون منطلقاً من هذا التوجه، أو ذاك. وعلى سبيل المثال، نجد أن إدارة الرئيس «دونالد ترمب» تبنت الجاكسونية، وإلى حد كبير، جعل من الترمبية ( Trumpism) تعني الجاكسونية أيضاً. أما إدارة الرئيس «جوزيف بايدن»، فيبدو أن سياساتها الخارجية تنطلق من التوجه الهاملتوني. إضافة الى صهيونيتها المشهودة. **** والواقع، أن كل الرؤساء الأمريكيين، من «هاري ترومان» للآن، كانوا - وما زالوا - داعمين بقوة للكيان الصهيوني، ولما يقوم عليه من أسس عدوانية، وإجرامية. وأكثر من اكتوى بنار وسلبيات هذه السياسة، على مدار العقود الثمانية الماضية، هي الشعوب العربية والإسلامية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. كما أن لهذه السياسة أضراراً طالت كل الشرفاء في العالم، وأساءت لسمعة أمريكا، وهزت مكانتها. ففي سبيل نمو وتوسع وعربدة إسرائيل، دمرت بلاد، وقهرت شعوب، واضطربت مناطق، وخرقت القوانين والأعراف الدولية والإنسانية الرئيسة. وباختصار شديد، فإن هذا الدعم الأمريكي الأعمى لإسرائيل، يرجع لعدة عوامل، كما هو معروف، أهمها العامل السياسي، وكون هذا الكيان قاعدة غربية متقدمة، لتسهيل الهيمنة على المنطقة. إضافة إلى الترابط الديني الوثيق، بين تعاليم الصهيونية، ومعتقدات الجماعات الإنجيلية الأمريكية (البروتستانت). **** وعندما نحصر تحليلنا السريع هذا، على منطقتنا العربية، ونحاول تلخيص أبرز ملامح السياسة الأمريكية تجاه ما تسميه بالشرق الأوسط، نجد أن أمريكا قد «كسبت» عدم ود معظم شعوب هذه المنطقة، بسبب ما يشوب سياساتها من ظلم، ودعم للاحتلال والعدوان، وازدواجية مقيتة. لقد اتسمت السياسات الأمريكية والغربية نحو المنطقة، في العقود الثمانية الماضية بخاصة، بسمات، أقل ما يقال عنها إنها «عدائية»، واستغلالية، وانتهازية، رغم أن أمريكا، باعتبارها صاحبة أكبر «نفوذ» عالمي، كانت تستطيع عمل الكثير والكثير لصالح الأمن والسلم الدوليين والإقليميين، خاصة لو اتبعت مبدأ «الكل يربح»، لا مبدأ «لأربح، وليخسر الآخرون»، كما تفعل غالباً. كما اتسمت سياسة أمريكا نحو المنطقة العربية بخاصة، بسمات سلبية مرفوضة، من أهمها: تزعم حركة الاستعمار الجديد، وازدواجية المعايير، والادعاء بحماية مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، وحقوق الإنسان، رغم سعيها لمحاربة هذه المبادئ بالمنطقة، صراحة وضمناً. إضافة إلى أنه كثيراً ما يتم ضرب الأطراف ببعضها، لتطويل أمد الصراعات، واستمرار الطلب على شراء الأسلحة. **** ولكن أسوأ ما يلاحظ على هذه السياسة، هو صهيونيتها... فهذه السياسة هدفها الأول والرئيس هو: ضمان وجود ونمو وتوسع ورفاه إسرائيل، وضمان هيمنتها على المنطقة ككل. فمضمون هذه السياسة، وجوهرها، يتجاوز الانحياز الأعمى لإسرائيل... ليعتبر إسرائيل هي أمريكا نفسها، ورعاية «مصالحها» ودعم عربدتها هو واجب أمريكي شبه مقدس...؟! أمريكا...هذه الدولة «العظمى» تقف وراء إسرائيل... هذا الكيان الإرهابي، الذي يرتكب إحدى أكبر جرائم العصر، باحتلال فلسطين، والتنكيل بشعبها، وقتل أطفالها ونسائها. ثم يلقى الدعم الأمريكي. فهدف أمريكا تحقيق أهداف إسرائيل أولاً، رغم عدوانيتها... وحتى وإن تناقضت مع مصلحة أمريكا نفسها. وأمريكا تستخدم هذا الكيان، كقاعدة معادية متقدمة، هدفها تحقيق المطامع الصهيونية، وأهداف أسياد إسرائيل، في أمريكا والغرب. وقد كشفت عملية «طوفان الأقصى»، التي شنتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر 2023، ضد الاحتلال الإسرائيلي البغيض، هذا الإجرام الغربي، وأكدت شراكته التامة في العدوان الصهيوني على الفلسطينيين والأمة العربية. فمقاومة لوطأة الاحتلال الصهيوني، شنت عملية طوفان الأقصى، التي لها كل ما يبررها. فإذا بالمعتدي الصهيوني يرتبك... ليسارع رعاته لإنقاذه، وتزويده بالمزيد من الدعم والأسلحة والقنابل الفتاكة، التي سرعان ما استخدمها الصهاينة لارتكاب مذبحة إبادة غزة الجماعية، ضد المدنيين الفلسطينيين. هذه المذبحة التي ما زالت مستمرة، ونتج عنها، حتى الآن، مقتل أكثر من 32 ألف مدني فلسطيني، منهم حوالى 13 ألف طفل، وجرح حوالى 80 ألفاً. وأثير في مجلس الأمن الدولي طلب وقف هذا العدوان (كما ترغب غالبية دول العالم). ولكن ال«فيتو» الأمريكي كان حاضراً، مع الرغبة الإسرائيلية في استمرار المذبحة. ثم سمح لهذا القرار أن يصدر مؤخراً، عبر الامتناع عن التصويت. تباً للظلم والعدوان.