خلافاً لما قد ينتابه إزاء أي جنس أدبي آخر، فإن القارئ لا يحار عادةً تجاه الشعور الذي يعتريه إبان قراءة كل نص قصصي، فلطالما انطوت النصوص القصصية على جاذبية خاصة وانطباع آسر تمكنانها من إغواء القارئ واختراق التماوجات المعقدة لنفسه واختبار عمق عاطفته وتنقية وشائجه الإنسانية وتحقيق غريزة انتمائه وإسدائه صنيعاً يتجاوز في نفاسته المتع والمباهج اللاتي اعتاد أن تسديهن إليه قراءة الأداب نحو أفق رحب يمكن لمخيلته من خلاله أن تحلق وتخلق معاني وتفاسير دون الخضوع لأي قانون، فأسفل القشرة الرقيقة للخيال تكمن التفاسير التي يضطلع عقل القارئ ومخيلته بتغذيتها لتمنح النصوص القصصية دوراً تنويرياً، وتجعل منها أداة تحررية تناهض تغول المادية في حياتنا وتقاوم ضراوتها في تفتيت أنساق القيم وتطري العاطفة وتعيدها هيئتها الأولى. فالأدب؛ الذي اعتاد أن يلفت انتباه القارئ نحو قيمة الإنسان وقيمه ويعينه على إعادة اكتشافه لذاته ويضاعف اعتقاده بأن كل مبررات الفصل والتمايز ليست سوى نزوة كبرياء نمت في العقل البشري إلى جانب ضروب القناعات المروعة والمادية السامة وهيمنت على تصوراته، كان ومازال قادراً على إيقاظه من النشوة المزيفة التي ألمّت به، وذلك من خلال نقلات ناعمة ومتتالية تضطلع النصوص القصصية بأبعدها أثراً وأكثرها تأثيراً، ليس من خلال إعادتها إنتاج التجربة وتشذيب ضوضائها ووضعها في قالب آسر فحسب، بل عبر شق تفرعات ذهنية بديعة ونابهة ومسارات مختلفة للتفكير يُستدل من خلالها إلى ذواتنا الحقيقية المنافية لتلك التي منحها الواقع بريقاً مزيفاً وأوهمنا بأنها تمثلنا. بصرياً قد تبدو قراءة نص قصصي إجراءً مبتذلاً لقياس المتعة القرائية ومراناً لمهارة الكشف عن الأحجيات، لكن ما يجري فعلياً هو حقننا بعقار أدبي ذي مفعول إنساني وما ينتج عن عملية كهذه هو أننا نستيقظ وقد تخلصنا من سمية التكنولوجيا ونزق المادية وظفرنا بتمحيص جيد لخطايانا الفكرية وتقويم لخطانا اللاحقة. إن ما تمنحنا إياه النصوص القصصية يفوق ما نعتقده ويتجاوز ما نظنه، فهي تخبرنا كيف نمزج بين الحقيقة والخيال وبأي الطرق نستطيع أن نحيل قتامة الحياة إلى لون زاهٍ، وكيف يمكننا أن نجعل غير الممكن قابلاً للتحقيق، وإلامَ نلتحم بالأرواح المضطهدة ونضطلع بالذود عنها فنصبح جزءاً من النص، وعبر تفاسيرنا يمكن أن نضيف إليها قيمتنا الخاصة لتتماهى مع تجاربنا. ليس من المبالغة القول بأن الأدب هو إحدى طرائق توطيد العلاقات الإنسانية بين البشر على اختلاف مشاربهم وتنوع مذاهبهم، وأن ذلك ممكن بشكل خاص من خلال النصوص القصصية؛ فسواء كان من يقرأ قصة «لمن أشكو كآبتي» للروسي أنطوان تشيخوف أو نص العقد «الحلية» للفرنسي غي دو موباسان أو «الحمامة» للألماني الألمعي باتريك زوسكيند يجلس في مقهى كلوني في الحي اللاتيني بمدينة باريس أو في مكتبة الملك فهد الوطنية في الرياض أو مكتبة عين بينهاي الثقافية في الصين، فسيشعر بالأسى ذاته حيال الحوذي ايونا بوتابوف، وبذات القدر من الأسف تجاه السيدة لويسيل والحزن نحو جوناثان نويل. وذلك لأن للسيدة «متلدة» على سبيل المثال نظيراتها اللواتي يرين أهميتهن من خلال بريق الحلي بمعناه الرحب ويتشاركن وإياها حلمها الذي اقتطع عقداً من عمرها لصالح عقدٍ مزيف لا تتجاوز قيمته خمسمائة فرنك، وكذلك هو الحال لكثيرات أفضى بهن سعيهن المحموم نحو دائرة الضوء إلى حمأة معتمة، كما أن للحوذي من مجايلي كآبته من انتزعته الفردانية من جذوره ومزقت المادية نسيج مجتمعاتهم كما مزق الألم روعة فتآكل واهترأ، وللسيد نويل من يقاسمه ذعره حتى ممن يرتدي وجهاً مسالماً، وهو شعور إنساني مشترك يجمع كل هؤلاء في نقطة واحدة. إن الشخوص القصصية والأحداث المتعاقبة في القصة ليست وليدة مخيلة الكاتب، وإنما هي نتاج التضاد الأزلي بين الشر والخير والضدية التي نعيشها بين المادية بوحشيتها والقيم بسماحتها، وحين نقرأ نصاً ما فإنها تغادر مدنها الورقية إلى لا وعينا فتقيم فيه لتصبح الصوت الذي يهمس في أسماعنا ليوقظ ضمائرنا كلما غفت ويطري ما تيبس من عاطفتنا. نحن نجد نظيراً مماثلاً للكثير من القصص في حياتنا، وربما شعرنا بتطابق بين ما ينتابنا حيال حدث ما وما أورده الكاتب تجاهه، وحينذاك يخامرنا اعتقاد بأن ما قرأناه قد خط لنا بشكل خاص. ولذلك كان النص القصصي قادراً على أن يقطب جراحنا وأن يرأب الصدع المتجذر في أرواحنا ويعيدنا آملين، فهو أحد أهم الموارد الثقافية الخليقة بالتأثير في جوهر الإنسان، ومن خلال المخيلة يمكنه استخدام أفضل أدواته ليخلصنا مما علق بنا من كدر المادية، كما يمكن للنصوص القصصية أن تتحول إلى فراشات ملونة تتطاير في مخيلة القارئ وتهبها نثار ألوانها الزاهية ووميض ضيائها لترسم لوحةً أخّاذة تعكس قيمنا المشعة وتعيد إلينا بريقنا المسلوب.