10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادة حول الدلالة القصصية للغة
نشر في الحياة يوم 26 - 03 - 1998

مداخلة قدمت في مؤتمر الرواية العربية الذي عقد أخيراً في القاهرة
هذه المداخلة تقع على حافة النقد الأدبي، فهي ليست بحثاً نقدياً متكامل الجوانب، ولا محض تأملات ذاتية في الأدب، بل هي، بين الاثنين، أفكار نقدية شبه منهجية، انبعثت في الأساس من تجربتي الشخصية في الكتابة القصصية، هذه التجربة التي امتدت على مدى خمسين عاماً، وتراوحت بين صعيدي الأقصوصة والرواية.
وكما تعلمون، فلقد بدأ توغل الأدب القصصي الغربي في ساحة الثقافة العربية منذ أوائل القرن العشرين، وازداد اتساعاً في العقدين الثالث والرابع منه. ومع تمكن هذا الفن من نفوس القراء والأدباء على حدّ سواء في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية انتشرت ممارسته بين الأدباء العرب واتسع اقبال القراء عليه بحيث صار الفن القصصي - الغريب في الأصل عن تراثنا - فناً أدبياً معترفاً به بين فنون الأدب العربي الأخرى. ثم ازدادت مكانته ارتفاعاً بعد ان تُوّج احد كتّاب القصة العرب بجائزة "نوبل" لسنة 1988. ان منح الاستاذ نجيب محفوظ هذه الجائزة العالمية الرفيعة عن مجموع أعماله الروائية هو - عدا كونه اعترافاً عالمياً بمكانة هذا الأديب العملاق ومكانة الأدب القصصي العربي - تحميلٌ لكل الكتّاب العرب مسؤولية الاستمرار في تطوير هذا الفن وتزويده بدماء جديدة.
وفي الواقع، لم يواجه الأدباء في العالم العربي، هذا الفن الوافد بدون قلق وشكوك وتبريرات ومحاولات للعودة به الى التراث، وكانت تلك أحوالاً طبيعية ترافق، غالباً، عملية سلوك طرق جديدة في الفن والأدب.
اضافة لذلك، كانت هنالك مشاكل تقنية تزداد مع مرور الوقت وتقف فوقها جميعاً مشكلة كبرى هي مشكلة الهوية العربية، او بتعبير آخر… كيف يمكننا، ككتّاب عرب، ان نؤسس لفن قصصي ذي مستوى رفيع عالمياً ويحمل في الوقت نفسه، وبشكل من الأشكال، سماتنا الخاصة وهويتنا العربية؟
لقد تأكد لنا، عبر السنين، ان هذا التساؤل لم يكن ترفاً، بل هو عصب الفن وأساسه، ذلك ان ممارسة الكتابة لا تعني شيئاً بالضرورة، فقد تكون عملاً عشوائياً، وقد تستمر، بعشوائيتها هذه، طوال العمر، حتى يتدخل عنصر آخر في الأمر، فيحيل هذه الممارسة الى فعل منظم ذي هدف فني معلوم… ذلك هو النضج الفني.
ان الحديث عن النضوج الفني، ايها الزملاء، طويل ومعقد بعض الشيء، وقد يؤدي بنا الى الدخول في تشعبات الفن القصصي وطرقه وأسسه السليمة وغير ذلك مما قد يطول شرحه ومما قد أكون غير قادر عليه في الواقع.
ما يهمني في هذه المداخلة هو ان أعرض عليكم بعض الأفكار فيما يخص مشكلة واحدة من مشاكل الفن القصصي، وهي التي وجدتها ذات خطر وأعني بها مشكلة اللغة… مشكلة البحث عن اللغة العربية التي هي لغة الفن القصصي، ولا أقصد اللغة التي تصلح للفن القصصي او التي تلائمه او تنسجم معه. كلا، بودي ان أتحدث الآن عن لغة الفن القصصي ثم بعد ذلك عن الدلالة القصصية لهذه اللغة.
هنالك، في اعتقادي، مرحلتان في عمر الكاتب القصصي في ما يخص علاقته باللغة. الأولى حين يحس احساساً مربكاً، خلال ممارسته الكتابة، بأن اللغة تضيّعه والثانية حين يدرك، بعد النضوج، ان اللغة صارت معه ولكنه ضائع لأسباب أخرى.
في المرحلة الأولى يجد الكاتب ان وسيلته اللغوية التي ورثها ونشأ عليها، تزوغ به عن الطريق الموصل الى هدفه الفني. انها لغة لم تُشّذب ولم تُصقل كما يجب، إذ لم يفكر الأسلاف باستعمالها على هذا المستوى لتحقيق غاية فنية لم تكن معروفة آنذاك. فهي، والحالة هذه، متاهة من رمال متحركة، تسيطر عليها قوى مجهولة توّجه قلم الكاتب أغلب الأحيان وتقوده كما تشاء هي لا كما يريد. وخلال هذه الفترة من الضياع والمعاناة والشكوك التي قد تطول قبل بلوغ النضج، يتبين فيها الكاتب ان نوعية الكتابات التراثية لا تعينه كثيراً، حتى تلك الأعمال التي يُشم منها رائحة الفن القصصي لا تفيده على المستوى اللغوي المطلوب، فليس واقعياً في الوقت الحاضر ان نتبنى لغة التراث الموجودة في كتب الأخبار او في الخطب والرسائل، او تلك الموجودة في المقامات وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، إذ ان كل هذه اللغات خاصة بزمانها أولاً وهي ثانياً ذات دلالة قصصية ضعيفة إن لم نقل منعدمة.
ايها الزملاء،
ان البحث عن لغة الفن القصصي حين لا يسعفنا التراث، لا بد، منطقياً، ان يكون في معرفة ماهية هذا الفن أولاً وما هي أهدافه وقابلياته الممكنة ثانياً.
والآن، ما هو الفن القصصي؟ ما هي أهدافه؟ وبأية طريقة يحققها؟
لقد عرّفه البعض بأنه فن لغوي، وفي ظني انهم مخطئون، فهذا الفهم سيجعلنا نواجه بعض العقبات وننتهي بعدئذ الى باب مغلق او شبه مغلق. ذلك ان من تبعات هذا التعريف ان تتراجع مهمة الايصال الى الدرجة الثانية او الثالثة، لتصبح اللغة هي الأساس والهيكل والهدف. وبتراجع أهمية الايصال، ومن بعدها التلقي، تتضخم اللغة تضخماً مرضياً وباستمرار، وتأخذ بابتلاع ذاتها لتوليد لغة أخرى، تقوم هذه أيضاً بعملية ابتلاع وتوليد ثانية وهلمجرا.
ان الأخذ بهذا المفهوم الخاطئ يصيّر من الأدب القصصي، كما هو لدى البعض، هياكل لغوية فارغة، ذات مداخل ومخارج أفعوانية، فليس هنالك بداية لأي شيء ولا يمكن بالطبع ان ننتظر نهاية ما.
اذن، فالفن القصصي ليس فناً لغوياً بهذا المفهوم مثلما النحت ليس فناً رخامياً، ذلك ان الفنون، كما نعلم، تستخدم موادها الخام من أجل صياغتها بهدف الوصول الى غاية جمالية أسمى، موجهة بالأساس الى ذهن المتلقي ودخيلته وذوقه. لهذا أجد من الأصح في تعريف الفن القصصي، ان نقول بأنه فن يتخذ من اللغة وسيلة للايصال والتأثير، بهدف بناء عالم متحرك في مخيلة القارئ مستغلاً، لتحقيق هذا الهدف، ديمومة القارئ النفسية من أجل امتاعه واغناء حياته.
ان مثل هذا المفهوم للفن القصصي يمنح الكاتب حرية باتجاه معين ويضع له الحدود التي تحفظ له جهوده من الضياع ويفتح أمامه، في الوقت نفسه، طرق التجديد المشروعة.
واسترسالاً مع هذه المنطلقات يمكننا ان نأخذ فن الأقصوصة كمثال أساسي ومهم للفن القصصي عموماً ونطبق عليه ما أسلفنا من مفاهيم. ان كاتب الأقاصيص يجد نفسه، بالضرورة، يعمل ضمن حيز محدود، تحسب عليه فيه، لا الجمل او الفقرات حسب بل الكلمات المفردة أحياناً. فإذا ما ركزنا على لغة هذا الفن وأكثرها تحقيقاً لغايته باعتبارها وسيلة للتأثير، لوجدنا بأن ليس من الممكن تقديم نموذج او طريقة خاصة في الكتابة، فهذا أمر تعليمي وهو يجانب روح أي تنظير جدي.
من جهة أخرى، بمقدورنا ان نصف هذه اللغة ونحيطها بدائرة ونشير اليها باشارات يفهمها من عانى في البحث عنها.
يبدأ الخلق القصصي منذ الجملة الأولى إن لم نقل منذ الكلمة الأولى في الأقصوصة، فالمجال ضيق كما قلنا ولا يمكن اضاعة الوقت في استرسال غير مجدٍ، او في تلاعب لغوي. وعلى هذا فالبداية تسعى بالتوجه البسيط والمباشر لاحداث اثر في مخيلة القارئ او لما يشبه الصورة، وفي ظني، ان لغة مثل هذه يتوجب ان تكون لغة شفافة مصفاة، يجري ما أمكن اضمار معناها النفعي من أجل ابراز دلالة فيها ضمن التركيب القصصي. انها لغة مصهورة لتحقيق هدف محدد، وهي إذ تلتزم غاية البساطة والانمحاء أمام بصر القارئ، فذلك من أجل ان تتسلل برفق الى دخيلة نفسه ومخيلته دون عائق من لفظة غريبة او صياغة معقدة.
ان النجاح باحداث هذا الأثر هو بحد ذاته عملية سحرية فذة، تُستخدم لتحقيقها قابليات الانسان الرائعة للتخيل والتركيز وتمثل الاشارات وانفتاح الذات الزمني، فمن علامات ملتوية على الورق تُشاد أعجوبة خلق فنية تتجاوز هذه العلامات بمراحل.
وبمقدار العناية التي عملنا بها على خدش ذاكرة المتلقي بتأثير معين، يقتضي منا أمر الاحتفاظ بزخم هذا التأثير واستمراره عناية أكبر. فالصورة الأولى الناتجة عن التأثير الأول، إذ تتبعها صورة أخرى وثالثة ورابعة، يمكن ان تسمح بتكوين سلسلة من التأثيرات المصورة، تتحرك تلقائياً بارادة القاص في نفس القارئ.
ان القارئ/ المتلقي والحالة هذه، يمر بتجربة ابصار من نوع خاص وفريد جداً، وهو يشاهد ويعيش من الداخل، في الآن نفسه، أجواء الأقصوصة وبواطن الشخصيات. ولا نغالي إن افترضنا بأن هذه العملية ذات الأبعاد الفنية، لا تنتهي بانتهاء الأقصوصة، فالقارئ الذي مرّ بعملية الخلق هذه كطرف ثان، لا بد ان يتبقى في نفسه منها ولأمد طويل ربما، معنى ما او نغم مبهم او ذكرى.
ومن الواضح ان هذه النتيجة قد ارتبطت مباشرة باللغة وبالطريقة التي استعلمت فيها. فاللغة التي أشرتُ الى بعض مواصفاتها تسعى هنا وبانتظام لاحداث تأثير معين في نفس القارئ، فهي لغة ذات قصد فني وهي بالتالي لغة ذات دلالة قصصية. وعليه فإن الدلالة القصصية هي، ببساطة، الاستعمال الفني الهادف للغة بحيث تُنسى هذه اللغة عموماً وتبرز منها المؤثرات لتعمل عملها.
تبقى هذه المفاهيم الفنية المتعلقة بالأقصوصة ذات قيمة ومفعول حين نعالج معنى الدلالة القصصية للغة في العمل الروائي. من المعروف، ان الاختلاف بين الأقصوصة والرواية لا يقتصر على عدد الصفحات وعلى سعة مساحة الأحداث التي تتناولها الرواية وكثرة الشخصيات والعقد فحسب، بل يحسم الفرق بينهما ذلك التطور في العمق الذي ينتاب شخصيات الرواية عبر مسيرتها الحياتية على المستوى الفكري والنفسي والعاطفي.
وإذ تكون الرواية بمثل المميزات التي لا تخلو من التعقيد، فإن اللغة القصصية لا تستطيع ان تكتفي بالتأثيرات الصورية المتتابعة التي تلائم الأقصوصة. ذلك ان هذه العملية، كما بيّنا، تحتاج الى جهد من القارئ يستحسن ألا يطول بحيث يتعبه ويوّلد لديه رد فعل عكسي.
لهذا يقتضي علينا استكمال البناء الهيكلي للرواية ادخال عناصر أخرى تنسجم مع هذه المؤثرات وتقوّيها وتفيد منها.
ومع ان الدلالة القصصية للغة تبقى هي نفسها كما رأينا في كتابة الأقصوصة باعتبار ان الرواية، أساساً، هي ايضاً تشييد بناء في نفس القارئ، إلا ان ضخامة هذا البناء وامتداده الزمني يوجب توزيع المؤثرات الصورية لتصير ركائز للهيكل العام، تنغرس نظرياً في نفس المتلقي كمستوى أول، ثم يجري ملأ الفراغات في ما بينها بخامات حيوية لها صلة بالجو القصصي وبشخصيات الرواية. وبالنسبة للخامات الحيوية هنالك على سبيل المثال الأفكار وأشباه الأفكار والتأملات والانطباعات والانفعالات ومجرى الشعور واللاشعور والحوار وغير ذلك. ان هذه العناصر تساعد بتفاعلها مع المؤثرات الصورية على تحريك مسار الرواية باتجاه معين، تخضع فيه الدلالة القصصية اللغوية لهدف الكاتب الأساسي والعام، فبالرغم من التباعد الظاهري لهذه الخامات عن المؤثرات الصورية، إلا انها، في الحقيقة، تسير بمحادثاتها وتحفظ لهذه المؤثرات حرارتها وحيويتها.
بعد ذلك، ومن نتيجة اشتغال الخامات مع المؤثرات واندماجها معها يتكّون، بالضرورة، مجرى روائي عميق يتقدم في تحرك محسوب ليضع الحدود النهائية للرواية.
ان تأسيس هذا المجرى في نفس القارئ والمحافظة على دوام الشعور به حتى النهاية، يعني، بالدرجة الأولى،ان الدلالة القصصية للغة في الرواية قامت بدورها.
بدون مناقشة التقنية الروائية المطبقة، يمكننا ان نعتبر هذه الحزمة او المجرى اللغوي ذا المستويات المتعددة، معبّراً عن عالم الشخصية الروائية، وهو، بهذه النظرة، عالم لغوي متشخص يملك ان يتحرك بميزان نحو هدف فني ويبني، في الوقت نفسه، هيكل الرواية العام، بمفرده او بمشاركة من عوالم شخصية أخرى، وإذ تتلاقى هذه المجاري من العوالم اللغوية المتشخصة وتتقاطع وتتقدم عبر الزمان لتضع اللمسات الأخيرة للبناء الروائي، يكون للدلالة القصصية اليد العليا في نجاح عملية الخلق الفنية.
ان كل هذه المحاولات اللغوية تسعى الى ادماج القارئ فنياً في جو الرواية ووضعه وسط عالمها وبجوار شخصياتها، غير ان مسافة ما تبقى فاصلة بين الاثنين. ذلك ان هذه المحاولات هي وسائل فقط من أجل اتمام لقاء حميمي بين وجودين مختلفي الطبيعة خلال زمن معين… وجود القارئ المادي الصلب من جهة، ووجود الشخصية الروائية الأثيري المحاط بالشبهات من جهة أخرى. وبسبب هذا التناقض الذي لا مناص منه، يصبح نجاح الانجاز الروائي عملاً خطيراً وجاداً على أكثر من مستوى.
ان الساحة الروائية أوسع من ان تحدها حدود وأكثر غموضاً من ان تُستجلى بالكامل خلال جيل واحد، ولقد وجدت ان "المعرفة الروائية" قضية تسّورها الشكوك من كل جانب، ويخيل اليّ، من جانبي، انكم لم تطمأنوا تماماً لكل ما كنتُ أحدثكم به منذ بعض الوقت، وبقدر ما تبدو هذه الأمور طبيعية، بقدر ما تصير باعثة على زيادة البحث وزيادة الحماس، فالمعرفة الروائية اشاعة غير مغرضة، انها موجودة ولكن بخفاء. ذلك انها ليست من العلم في شيء، بل هي فن من الفنون، والفن، عادة، يخفي أسراره قدر المستطاع، غير ان كل هذه الاشكاليات لن تخفف من سعير البحث عن هذه المعرفة الروائية، وعن محاولة الأمساك بمقاليد الفن الروائي.
وفي الحقيقة، أردتُ شخصياً، وأنا أتكلم هكذا عن غموض ما يُفترض ألا يكون غامضاً، ان أتوصل الى شرح مرحلة أخرى من مراحل الدلالة القصصية تتصف بأنها غامضة بامتياز. انها مرحلة انصهار اللغة بصورة تامة من أجل اعادة تشكلها بمستوى دلالي خاص ذي اتجاه واحد، ينبع من ذات شخصية معينة ويعبر عنها، غير ان طريقة التعبير هنا، في هذا المستوى الذي يفلت من التعيين الدقيقة، ليست هي الطريقة السردية المألوفة.
ان اللغة، المتشكلة بلباس خاص، تبث خطاب انسان متشخص، خطاب يفيض من ذاته ويدل عليها دلالة أكيدة ولكنها زئبقية. انها لغة تعج بموسيقى هذه الذات وبمنحنيات الأفكار عندها وانطلاقاتها وتناقضاتها، وتتردد فيها التأملات وأصداء الأفعال المجنونة، وتضم، على الدوام عواطف القلب والرغبات المكبوتة والتحديات وأفعال الانسجام. انها خطاب وليس أسلوباً.
وبسبب الخفاء المقصود لدلالة اللغة القصصية، يُساء فهم مثل هذه الأعمال الروائية، ذلك ان ما يظهر على السطح لا يدل على الأعماق في الحال، ويتوجب على القارئ هنا، ان يقرأ النص قراءتين او بالأصح ان يتجاوز "واجهته" ليغوص باحثاً عن اشارات وآثار ذلك الانسان المختبئ خلف الدلالات.
ان الاكتفاء باللغة السردية المعروضة، في مثل هذا النمط من الروايات، لا ينفع في الوصول الى حقيقة العمل الروائي ومعناه النهائي، لسبب بسيط واحد هو ان هذه الحقيقة وذاك المعنى يستقران، لا في اللغة، بل في دلالاتها القصصية، فالدلالة القصصية للغة تكوّن جزءاً من الشكل الفني للرواية.
ان الاجتهادات والتخريجات النظرية فيما يخص مناهج النقد الروائي وتطبيقاته في العالم، لا يمكن ان تنتهي او تقف عند حد، ولقد اطلعنا على أعمال روائية ذات منحى غريب لا يمت بصلة واضحة الى هذا الفن، انجزها مؤلفوها وهم يطبقون، في اعتقادهم، نظريات حديثة في أسس الرواية. ولا يمكن بالطبع ان نلومهم او ننتقص من قيمة محاولاتهم ما داموا مخلصين، فلكل مجرب نصيب من الصحة والخطأ. إلا ان الأمر المرفوض على المستوى النظري والتطبيقي هو التراكض العبثي وراء الجديد بكل ثمن ولو على حساب احترام قواعد الفن، ففي اعتقادي، ان المجددين الاصلاء للفن الروائي هم المجددون ضمن حدوده والمطورون لهذه الحدود بحيث تستوعب وتنسجم مع الأفكار المعاصرة وتسمح في نفس الوقت، للأشكال بأن تتكون بصورة جديدة خصبة.
ان هذا الموقف لا يمثل اتباعاً أعمى للتقاليد القديمة، بل هو احترام مبني على الفهم لطبيعة الفن الروائي ولقوانينه التي أسستها ورسختها شوامخ الأعمال الروائية على مدى القرون الماضية. وبالفهم العميق للقوانين الفنية ثم احترامها عند التطبيق واحترام الأعمال الروائية الأصيلة ومؤلفيها، يمكننا ان نجدد وأن نعثر على صور أنفسنا المعاصرة في فن قصصي يحمل هويتنا الحقيقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.