حينما غابت الصحافة الورقية وجودياً تقريباً.. ظلت الروح الصحفية ماثلة للعيان من خلال الأخبار والتقارير والتحقيقات وكل الأشكال الصحفية، التي نجدها الآن عبر منصات هذه الصحف الرقمية، معايشة منها للانفتاح الرقمي والتطور التقني الذي طغى على وسائل الإعلام المختلفة. ولعلي أستحضر مع هذه النقلة النوعية لإعلامنا المحلي والعربي، الورقة العلمية التي قدمتها عام 2014 في ملتقى الإعلام الإلكتروني بعنوان «نهاية الصحافة الورقية»؛ والذي استضافته جامعة الملك فيصل، وقد أعلنت خلال هذه الورقة تأريخاً تقريبياً لنهاية الصحافة الورقية في المملكة؛ وذلك في منتصف عام 2035. وأتذكر أن بعض رؤساء التحرير في ذاك الملتقى وجّهوا سهام نقدهم لورقتي العلمية، ولم يستوعبوا الرؤية الاستشرافية التي ذكرتها استناداً على قراءات صعود وهبوط الإعلانات بالمملكة؛ لأنّ الصحافة كانت تعيش مجدها الإعلاني آنذاك، بيد أن جائحة كورونا عجلت بنهاية الصحافة الورقية، حينما توقفت نتيجة للإجراءات والبروتوكولات الصحية التوعوية من انتشار الجائحة، فتحققت تنبؤاتي قبل أوانها، لكن ظلت صناعة الأخبار حاضرة في مواقع التواصل والمنصات الرقمية. لقد ألزم هذا التغيير التقني الرقمي.. الصحافة الورقية وحفاظاً على بقائها وعدم مغادرتها المشهد الإعلامي، بالانتقال إلى الرقمنة، والحرص على بقاء روحها، وهذا ما جسدته عملية التحول الرقمي لصناعة الأخبار، إذ ظلت الأخبار تتماهى مع تطورات الذكاء الاصطناعي، وقد أدرك بعض الأكاديميين روح التحول الرقمي فزاوجوا بين الذكاء وصناعة الأخبار، فأخرجوا لنا مولوداً هجيناً من خلال العديد من الأدوات والمناهج الأكاديمية والخوارزميات الحاسوبية، وقد استصحب هؤلاء واقع تعقيدات التكنولوجيا في حياتنا، حينما أدركوا مقولة ماكلوهان «الوسيلة هي الرسالة»، فالرسالة يظل تأثيرها قوياً من خلال الوسيلة وليس العكس. ذكر عالم الفيزياء أينشتاين أن القوة الوحيدة التي تؤثر على الجاذبية هي الكتلة، وستظل كتلة الأخبار وأخواتها هي المحور الأوحد الذي يؤثر في عملية صناعة الإعلام الرقمي ولا يمكن تجاوزه، وقد أرغم واقع الممارسة العديد من الجامعات من تدريس مقررات تتناول صحافة المواطن، وصحافة الهاتف، وصحافة الفيديو... إلخ. نحن الآن في عالم رقمي تستخدم فيه الخوارزميات لتشكل علاقاتنا الاجتماعية، التي انقسمت بين التأييد ومعارضة إدمان البحث عن الأخبار وأخواتها، ومن ظن أن الكتاب قد مات فهو واهمٌ، لأن الكتاب أصبح رقمياً، وكذلك دور النشر، ويمكن مقايسة صناعة الأخبار عليهما، والناظر إلى عمليات البيع والشراء يرى أنها تحولت رقمياً ولكنها لم تمت، فظهرت التجارة الإلكترونية وأسواق البورصة العالمية والوطنية. وعليه أقول إنه يجب استصحاب التغيرات الكبيرة في مجال صناعة الأخبار حتى نضع لبنات لمؤسسات إعلامية تكسب ثقة الجمهور من خلال صياغة الأخبار الصحيحة وإبعاد الأخبار الزائفة بتمكين طلابنا من التدريب المستمر على صناعة الأخبار في ظل تسارع استخدامات الذكاء الاصطناعي، كما ينبغي أن يتسم توصيف بعض المقررات بمرونة تسمح باستيعاب مستجدات الرقمنة، بجانب إنشاء أندية للتدريب المستمر من خلال دورات تتناول الذكاء الاصطناعي وصناعة الأخبار.. وإني مع هذه الرياح العاتية استشهد برعاية وزير الإعلام سلمان بن يوسف الدوسري، إطلاق «أكاديمية واس للتدريب الإخباري»؛ لإنشاء جيل إعلامي ينطلق من هذه الأرضية بهوية صحفية مرتكزة على عراقة إعلامنا الرصين الذي عرف عنه القوة في الطرح والغزارة في تقديم المحتوى الهادف. ولكي لا ننسى الإرث التاريخي لمسمى صحفي «Journalist»، وهو يطلق على جميع ممارسي المهنة من العاملين في جميع الأجهزة الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، لهذا لا يمكن تجاوز هذا الاسم في علم الصحافة والنشر وصناعة المحتوى الإعلامي، فجميع هذه المهن تلتقي عند هذا الاسم، وحتى الهيئات تعرف باسم هيئة الصحفيين، ولا يمكن أن ترى مذيعاً متميزاً ملماً بالمفردات اللغوية وتكوين البناء الإعلامي إن لم يكن ممسكاً بتلابيب لغة تمكنه من عكس كل قضاياه الاجتماعية عبر منصات النشر الرقمي. خلال الأعوام المقبلة سيشهد السوق الإعلامي السعودي انفتاحاً كبيراً عبر الشراكات الذكية بين مؤسسات وطنية ودولية، وتجسد الشراكة الحالية بين صحيفة الشرق الأوسط ومؤسسة بلومبِيرغ تحت مسمى «اقتصاد الشرق مع بلومبِيرغ»، وهي تمثل إحدى الخدمات الإخبارية الناطقة بالعربية، وتعتبر نموذجاً يحتذى به، وهذه الشراكات تحتاج لجيل تدرب على صناعة الأخبار حتى يتم توظيفه في هذه المؤسسات، وبالتالي فهي فرصة ذهبية لطلابنا، وعليهم أن يعدوا أنفسهم لاقتحام أسوار هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة والتي ستحدث نقلة ضخمة في حياة الجيل الرقمي.