تشرّفتُ بمعرفة المُفكر التونسي الدكتور محمد الحداد من قُرب، وعن بُعد بقراءة مقالاته وبحوثه وكتبه، ولعلّ ما يلفت المتابع لمشروع ضيف هذه المساحة؛ هدوء الطرح، و الإصغاء لكل سؤال أو تساؤل أو تحفظ دون توتّر ولا انفعال، ولعل ما تناول في كتابه (الدولة العالقة) يوضح بجلاء؛ دراية (المفكّر ) بأسباب وجذور الأزمة، وإن كان لا يملك مفاتيح الحلول، إلا أنه يقدم رؤى وإضاءات يمكن أن تسهم في تسريع الإصلاحات، وتفادي المزيد من المآسي التي طالت عالمنا العربي والاسلامي؛ بسبب جمود وتهيّب الفقهاء من التجديد، ويرى الحداد أن الدولة الوطنية باعتبارها فكرة حديثة لا يمكن أن تقوم وتستقرّ إلا بمراجعة عميقة للتأويل الديني والوظائف الدينية في المجتمع، وعدّ التبشير بالدولة الدينية، سواء في شكلها (الإخواني) أو (الدّاعشي)، نسفاً لمبدأ الدولة الوطنية وليس بديلا عنها، وهنا نص حوارنا معه: • هل انتهى عصر المفكرين الكبار؟ •• هذا شعور لا يمكن إثباته او نفيه، لكن يمكن تفسيره بطرق مختلفة، منها أن الفكر يتجه أكثر فأكثر إلى الاختصاص، والمفكر المختص في موضوع معين لا يحقّق نفس الشهرة التي كان يحققها سابقاً المفكر الذي يتحدث عن مواضيع كثيرة وكُليّة. لقد تشعبت المعرفة وتعقدت، وأصبح من الصعب الحديث في أكثر من موضوع يختص به المفكر ويبحث فيه وينشر أو يتحدث في إطاره. والتفسير الثاني لهذا الشعور أنه من نتائج تعميم التعليم؛ فلم يعد المثقفون نخبة محدودة العدد في المجتمع، بل أصبح عددهم كبيرا ولا يفتأ يتصاعد نتيجة تعميم التعليم على كل الفئات والطبقات. ولا شك أن مجتمعا يضم بضعة آلاف من المتعلمين ينتج بضع عشرات من المثقفين الذين يمارسون دورا في توجه الرأي العام. أما المجتمع الذي يصبح فيه المتعلمون بالملايين، فإنه ينتج مثقفين بالمئات والآلاف، وبالتالي فإن المثقفين، أي المتعلمين الذين يشاركون في توجيه الرأي العام، يرتفع عددهم ويصبح صعبا وصفهم جميعا بالكبار، والتفسير الثالث الذي يتبادر إلى ذهني هو أن التفكير لم يعد محصوراً في الجامعة أو مقتصراً على الصحافة، بل غدا يمارس بكيفيات كثيرة، منها وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني غير المحكّم. وأصبح لهذه الوسائل الجديدة قوة في تحقيق الشهرة والتأثير، وربما تتجاوز قوّة الجامعات والصحافة المكتوبة. إذ ارتفع الاحتكار عن هذا الشيء الذي كنا نسميه ثقافة أو فكرا. ولم يعد يخضع لمقاييس متفق عليها ولا إلى رقابة من داخل الحقل الثقافي والفكري ذاته. فمن الطبيعي حينئذ أن نشعر بانتهاء عصر المفكرين الكبار، بما أن الجميع متاحٌ له أن يعدّ من بين المفكرين. ولا أقول إن هذا الأمر إيجابي أو سلبي. فهو إيجابي من زاوية أنه يرفع الاحتكار عن الفكر والثقافة. وسلبي هو من جهة أنه يفسح المجال لكل أصناف الخلط والسطحية والتلاعب بالعقول. • كيف تلحظ المسافة بين روح الأديان وواقع المجتمعات؟ •• المفروض أن لا توجد مسافة بين روح الأديان، وواقع المجتمعات، باعتبار أن الأديان تسهم في حلّ مشكلات المجتمعات وهي جزء منها. فإذا ما وجدت هكذا مسافة وحصلت إشكالات عدة، كما نعيشه اليوم في العديد من المجتمعات الإسلامية، فذلك لأننا ابتعدنا عن روح الأديان وغرقنا في التفسير الحرفي، والتعامل المغلق مع التراث الديني، وسادت الاتجاهات المحافظة والمنغلقة، بل المتعصبة والعنيفة في تنزيل القول الديني على واقع المجتمعات المعاصرة. وقضية الدين هي دائما قضية تأويلية. والسؤال المحوري هو تحديد من يمنح الحق في التأويل الديني؟ فمنذ انهيار المؤسسات الدينية التقليدية في القرن التاسع عشر، لم يعد التأويل محددا بقواعد مضبوطة متفق عليها؛ وهذا الأمر صار متعذرا. وفي الآن ذاته، لم ينتشر في مجتمعاتنا روح الاختلاف والحوار ومعارضة الآراء بعضها البعض، عوضاً عن استعمالها للتنازع والانشقاق، وربما في أحيان أيضا، للعنف والإقصاء. ولا أرى مخرجا من هذا الوضع إلا عبر نشر وتكريس ثقافة الحوار، وفتح المجال لمختلف المحاولات كي تقدم لنا تصورها لما يمكن أن يفيد به الدِّين مجتمعاتنا في وضعها المعاصر، وليس باستعادة أوضاع تجاوزها التاريخ. وأن يفسح المجال لمقارنة هذه المقترحات والاختيار بينها في هدوء وروية، دون أن يقوم طرف واحد بفرض رأيه على الآخرين ويجعله التأويل الوحيد والحصري للدِّين؛ لا سيما إذا ما اتضح أن هذا الرأي وهذا التأويل لن يفيد المجتمع ولن يقدم له الحلول الكفيلة بأن يجعله ينمو ويتقدم وينافس المجتمعات البشرية الأخرى؛ خصوصاً تلك التي لن تنتظر نقاشاتنا التراثية كي تتطور وتمضي أشواطا أكبر في الحضارة، بينما نظل نحن نتخاصم حول الماضي ونستعيد أحقادا دفينة يفترض أن نتجاوزها في هذا العصر. • ما دور المُفكر في خضم هذا الصراع والتخاصم؟ •• نحن نعيش أزمات وصراعات تختلط فيها الخلافات المصلحية بالخلافات الفكرية والدينية والمذهبية والطائفية. والمفكر ليس قادرا على إيقافها، إلا أنه يمكن أن يسهم في التخفيف منها، وذلك بالتمييز بين المصلحة والموقف الفكري، وكشف الخلفيات المصلحية للعديد مما يبدو للناس مواقف دينية أو تاويلية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يستطيع المثقف أن يشترك في التخفيف من الأزمات والصراعات بتنزيل الاختلافات الدينية والفكرية في تاريخيتها، وربطها بالأسباب الموضوعية لظهورها، كي لا تكتسب صفة الإطلاق. فهناك الكثير من الصراعات اليوم قائمة على قضايا لو فهمناها فهما تاريخيا فإنها ستفقد قوتها التحشيدية حاضرا، لأنها مرتبطة بأحداث فقدت قيمتها اليوم، مثل الصراع حول الإمامة والشيعة والسنة ومسائل عقدية ليست ضرورية لتحقيق الايمان والتدين. • هل هناك صراع وتدافع بين الأديان؟ •• لا يمكن أن نشكك في أن الأديان أو بالأحرى أتباع الأديان والمنتسبين إليها؛ فتحوا صراعات كبيرة بين بعضهم البعض في الماضي، مثل الحروب الصليبية أو اضطهادات المسيحيين لليهود. كما لا يمكن الشك في أن بعض الصراعات المعاصرة الكبرى لها خلفيات دينية، مثل القضية الفلسطينية أو قضية ايرلندا الشمالية. فالخلفية الدينية للصراع موجودة في الماضي كما في الحاضر. والسؤال هو كيف العمل للتخلص من هذه الصراعات أو على الأقل التخفيف منها؟ ينبغي أن ننطلق من فكرة أساسية هي أن التفاوض على المصالح أمر ممكن، أما التفاوض على العقائد فهو أمر عسير بل مستحيل. فإذا فصلنا في الصراع بين جوانبه؛ المصلحية وجوانبه العقائدية، فإننا نسهّل بذلك عملية التفاوض. وإذا ما نزّلنا العقائد في سياقها التاريخي، فإننا نسهل بذلك الحوار. هذا ما يمكن أن نسعى إليه اليوم وأن نتجه إليه بقوة. نعلم أن العالم دخل مرحلة التدمير الذاتي، و كان هناك نظام عالمي قديم تأسس مع نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وهو الذي كنا نصفه بالحرب الباردة. ثم انهار مع سقوط حائط برلين، ودخلنا لحقبة ما دُعِيَ بالنظام العالمي الجديد، لكن الحقيقة أن هذا النظام الجديد لم يتبلور ولم ينجح، فدخلنا مرحلة من اللانظام ومن الفوضى المعولمة التي استعادت كل عناصر الصراع بين البشر ومنها العناصر الدينية والطائفية. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تفاقمت أيضا العناصر التي تهدد الوجود المحسوس للإنسان، مثل الصراعات على المياه والأغذية الأساسية، وتهديد التوازنات البيئية والكونية. ونحن متجهون نحو الكارثة إذا لم يتغلب صوت العقل والحكمة بعقد اتفاقات في كل القضايا المثارة اليوم إقليميا أو عالميا، والمفروض أن تساعد وتسهم الأفكار والأديان في توفير و إيجاد الحلول لا أن تزيد من تأجيج الصراعات. • بماذا يمكن تخفيف أثر النصوص المقدسة الداعية للقتل والممجدة له؟ •• من وجهة نظر العلوم الحديثة، خصوصا علم التأويل أو ما يسمى بالهرمنوطيقا، لا يوجد معنى نهائي لأي نص من النصوص، سواء كان دينيا أو غيره. كل نص قابل للتأويل، وليس معنى هذا أن كل تأويل للنص هو تأويل مقبول. ولكن معناه أن مساحة التأويل موجودة في كل نص. فإذا ما أوّلت بعض النصوص الدينية في السابق باتجاه تدعيم القتل والعنف، فلا شيء يمنع من إعادة تأويلها في الحاضر تأويلا مختلفا يتجه نحو السلم واحترام الآخر والقبول بالتنوع والاختلاف. • كيف تحول النص الدّيني من حلّ إلى إشكال؟ •• هذا التحول هو نتيجة طبيعية لانفتاح المجتمعات والبلدان والثقافات على بعضها البعض. في القديم، كان الناس يعيشون في مجموعات مغلقة، لكل منها مرجعيتها الدينية أو الطائفية. لكن، مع واقع العولمة الذي بدأ مع الثورة الصناعية، ومع الاختراعات التواصلية الكبرى، ومع قيام الدولة الوطنية التي تجمع أكثر من طائفة، ومع انتشار الأسفار وتعلم لغات الأجنبية، والتعرف على الثقافات الأخرى، تكرس واقع العولمة، وقد بدأ كما ذكرت منذ الثورة الصناعية. واستعاد زخمه بقوة في العقدين الأخيرين بسبب انتشار الإنترنت والعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي. لم يعد ممكنا أن نعيش في مجموعات منغلقة على نفسها. ولا مناص من أن نتقبل الاختلاف والتنوع. لكن، بما أننا لم نصل إلى وضع تنتشر فيه ثقافة الاختلاف انتشارا واسعا وقويا، فإن النص الديني الذي كان يمثل حلا للمجموعة أصبح يمثل إشكالا في علاقتها بالمجموعات الأخرى. فلا خروج من هذا المأزق إلا بإعادة التأويل الديني. • ما سبب أزمة المسلمين مع التراث؟ •• قضية التراث ليست خاصة بالمسلمين، وأزمة المسلمين مع التراث أنهم يقرؤونه بعيون الماضي. ويفترض أن لا تكون هذه الأزمة أزلية وأبدية، بل أن يقع تجاوزها بقراءات منفتحة للتراث. وأذكر في هذا المجال أن العديد من المثقفين الكبار ، طرحوا مشاريع لقراءة التراث يمكن أن نناقشها ونراجعها، لأنها تمثّل منطلقا لنقاش جدي وعميق في هذا الموضوع. أذكر منها مثلا مشروع الإسلاميات الذي طرحه البروفيسور محمد أركون، ومشروع نقد العقل العربي الذي طرحه الاستاذ الكبير محمد عابد الجابري، وهناك العديد من المشاريع الجدية المطروحة على الساحة الثقافية العربية. أنا لا أدعو إلى تبنيها في المطلق لكني أقول وأدعو إلى الانطلاق منها لطرح قضية التراث طرحا فلسفيا مجددا وجديا. • أليست الحضارة الإنسانية مشتركة ويمكن للجميع الإسهام فيها والاتحاد معها؟ •• الحضارة الإنسانية مشتركة، وكنّا رائدين فيها عندما قبلنا باقتباس علوم غيرنا، فأخذنا من اليونان ومن الهند ومن الصين، وانشأنا بيت الحكمة في بغداد في عهد المأمون، وأنشأنا مثيلات لها في القيروان والأندلس. • كيف تفسّر نزعة العنف الخالدة في وعي بعض المسلمين.. ما سببها، ومتى يمكن التعافي منها؟ •• عندما انغلقنا على أنفسنا وأوقفنا التفاعل الحضاري مع الآخرين، انهارت الثقافة عندنا، بينما استفاد آخرون مما أخذناه وطورناه، فحققوا النهضة. و قامت النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر على أساس استعادة تجربة النهضة الأولى في عصر المأمون. إلا أن التيارات المحافظة والمتعصبة والطائفية قضت على هذه التوجه وعادت بنا من جديد إلى وضع الانغلاق والتقوقع. • لماذا لم تتقدم للأمام مشاريع الأنسنة؟ •• لم تتقدم مشاريع الأنسنة في عالمنا العربي، بسبب صراعات مذهبية و طائفية ؛ و مثلما إنهارت في السابق بعدما بلغت شوطا كبيرا من التقدم يشهد به الجميع، انهارت مجدداً ؛ وأصبحت كل فكرة إنسانية مُتهمة بأنها من صناعة العدو الغربي، وفي الآن ذاته، نحن نسارع إلى المنتوجات المادية لهذا الغرب ونرفض منه الأفكار الجديدة والمبدعة. • ما انطباعك عن التحولات في المملكة؟ •• ما هو حاصل اليوم في المملكة العربية السعودية، سواء بتأسيس جمعية للفلسفة، أو إدخال العديد من التجديدات والإصلاحات الأخرى في الميدان الديني والتعليمي، هو أمل كبير، ليس فقط للمملكة، ولكن للبلدان الإسلامية، نظرا لما تحظى به المملكة من تأثير وصيت في مجموع العالم الإسلامي. فنجاح تجاربها الإصلاحية سيغري بتبنيها في العديد من المناطق الأخرى. أما الإسلام السياسي، فجفّت منابع تمويله اليوم، عقب أن استفاد في الماضي من طيبة بعض المجتمعات الخليجية التي استضافت بعض رموزه فانقلبوا عليها لاحقا. وكشفوا بذلك الطابع اللا أخلاقي لمشروعهم السياسي. وأعتقد شخصيا أن لا مستقبل للإسلام السياسي في عالمنا العربي بعد أن أثبت أنه يتصرف تصرفا ماكيافيليا، وأنه مستعد للارتماء في أحضان العدو لتحقيق غاياته، فضلا على أنه كان معلوما منذ البداية أنه لا يحمل بدائل حقيقية يمكن أن تستفيد منها المجتمعات العربية للخروج من مآزقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. • كيف يمكن للجمعية الفلسفية في المملكة أن تحقق نجاحات؟ •• لست مؤهلا لتقديم دروس لجمعية الفلسفة في السعودية، فهي متكونة من أشخاص فضلاء لهم معرفة وباع ولهم إدراك دقيق لطبيعة المرحلة وطبيعة المجتمع. لكن إذا ما كان لدي من نصيحة، فهي أن تنفتح على ما هو متوفر في الفكر العربي من إسهامات واجتهادات، كي لا تنطلق من الصفر، فالاستفادة من المنجز القائم دائما أمر مفيد. وعندما أراد المأمون أن يطلق نهضة فلسفية وعلمية عربية، لم يبدأ من الصفر وإنما بدأ مما هو موجود من معرفة إنسانية. فالانطلاق من الصفر هو دائما مضيعة للوقت.