في ليلة شتاءٍ باردة، مع وقع أمطارٍ هادرة، وحديث رياح هائجة؛ كان الفتى يئنُّ بين مطرقة الوحدة، وأنين الخوف، متلهفاً لصبحٍ يضيء له القليل من بصره. صارع ألمه وشارف الموت، مترقباً آخر نفس من حياته؛ ليلمع وميضٌ تتشكل فيه ملامح ذكرياته، ما جعله في ذهول، حيث بدأت في فصول بنسق مترابط، بتجسيد ما مضى من حياته؛ ليصبح الحاكم على ذكرياته، والناقد لحسن أفعاله، وقبح تصرفاته. راقب سيرته بدقة، ما جعله ينسى الليل وظلمته، والشتاء وشدته، والمطر وغزارته. إحساسٌ مريب؛ يجمع بين الظلمة القاحلة، والسكينة بدفء مع فيض من الاطمئنان! إنه يتقلب في سكون، متنعماً بتغذية وأجمل غطاء؛ فما زال جنيناً يحركه الفراغ، وتسعة أشهر بتلذذ بين النقائض. يرى النور لأول وهلة؛ فيصرخ بأول بكاء قد كان له رعباً، ولمن حوله سعادة، لينتقل إلى عالم فسيح، مليءٍ بالجمال والحزن، والصمت والأنين، والفرح والخوف، حيث لا رجوع إلى عالمه الصغير. لبث الجسد الضعيف في رحمة أم حانية، وعطف أبٍ ودود، ومضى به الزمن ليحبو، ثم طفلاً يركض في حديقة الزهور تلاحقه نظرات أمه الذابلة، ثم راشداً ينشد لمستقبله الأحلام متطلعاً لكل ما هو جميل؛ حيث الكون الفسيح وكأنه يملكه، فيغادر من حلم الى آخر وكأنه حقيقة! تلك مراحل نمو يقضيها كل إنسان أمد الله في عمره حتى يبلغ أشده، ثم كهلاً؛ فتكتمل الصورة حين وداع الدنيا فيبقى الأثر! فبكثيرٍ من الحب أستلهم المفردات لأقول؛ اصنع أثراً يبقى بمراجعة ما مضى، والتأمل فيما بقي، ثم أعلن التغيير للأفضل بمزيد من الإنجاز والعمل، وما تظنه سيبهج ذاكرتك، فحتماً سنرى ذلك الوميض.