أصبحت الرأسمالية المطلقة، والتي لا ضوابط عليها، كما نادى بها «آدم سميث» و«ديفيد ريكاردو» وغيرهما، في القرن السابع عشر، أصبحت منذ قرنين – تقريباً - من ذكريات الماضي. أما الرأسمالية التي تسود في الوقت الحاضر، في معظم أنحاء العالم – وبخاصة في أمريكا – فهي ليست مطلقة، ولا يمكن أن تكون كذلك. حيث لا ضوابط على «الحرية الفردية».. ولا قيود على حرية القطاع الخاص. رأسمالية الحاضر (ذات الضوابط) تهدف إلى: توفير مناخ الحرية الاقتصادية للأفراد.. ولكن في إطار خدمة المصلحة العامة للمجتمع المعني أيضاً. وذلك يقتضي وجود الضوابط والقيود، المشار إليها، والتي تأتي في هيئة «تدخل» حكومي معين، بصوره المختلفة، ومنها ما يعرف الآن ب«الحوكمة». أصبح من المستغرب أن نسمع الآن أصواتاً تدعو إلى إلغاء كافة الضوابط أمام القطاع الخاص، متناسية أن الرأسمالية إن تحولت إلى مطلقة – محررة تماماً من كل الضوابط والالتزامات – فستكون شراً مستطيراً.. وستنتج عنها كوارث اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية هائلة، ناجمة عن انقسام كل مجتمع إلى فئتين متناقضتين رئيسيتين (متصارعتين): فئة بالغة الثراء والنفوذ والتسلط، وفئة معدمة ومستغلة. وذلك مع ضعف، أو انعدام، وجود طبقة وسطى فاعلة. مما يؤدي غالباً إلى سيادة عدم الاستقرار في المجتمع الذي يبتلى بهذا الوضع. وهذا أمر لا يقبله منطق سليم، ولا يستسيغه إنسان سوي، ولا يرتضيه بشر عاقل لغالبية بني جنسه. وما زال هناك، في كثير من البلاد، متحمسون للقطاع الخاص ينادون ب«خصخصة» كل شيء – تقريباً – في كل بلد.. بحيث يقوم القطاع الخاص بمعظم، أو كامل النشاط الاقتصادي في المجتمع - تملكاً، وإدارة، وإنتاجاً، وتسويقاً. بينما تضطلع الحكومة بما تبقى. بل بلغ الحماس بالبعض حد المناداة بإلغاء دور الحكومات تماماً، وخصخصة حتى «الشرطة» و«الجيش»؟! وهذا إن تم الأخذ به فسيعني: نهاية الدولة، والحكومة.. الأمر الذي قد يؤدي بالمجتمعات للدخول قسراً – وعن سبق الإصرار – إلى حالة «الفوضى».. وسيادة «قانون الغاب».. حيث يسيطر القوي على الضعيف، إن لم يقضِ الأقوى على الأضعف تماماً ؟! ** لا أحد ينكر ما ل«الخصخصة» من مزايا كبرى كثيرة، أهمها: ارتفاع مستوى الإنتاجية - كماً وكيفاً، واتساع الأفق الإنتاجي. ولكن، ومع «تعميم» الخصخصة – قدر الإمكان – ينبغي الحفاظ على «دور» الحكومات (ممثلة غالبية الشعب المعني) الهام والحاسم.. في القيام بما يعرف ب«وظائف الحكومات الأساسية»، وأيضاً الاضطلاع ببعض «الأعمال الضرورية»، التي تقتضي «المصلحة العامة» قيام الحكومات بها، تفادياً للاستغلال، وحماية للصالح العام. إن دور الحكومة – أي حكومة - كوسيط محايد وملزم، لا يمكن أن يستغني عنه أي شعب، أو مجتمع. فالمجتمع – أي مجتمع - لا يمكن أن يكون مجتمعاً إنسانياً سوياً بحق، دون حكومة، يختار أشخاصها، لتولي إدارة شؤونه العامة، وفق مبادئ وقواعد (قوانين) يحددها المجتمع نفسه، أو الغالبية فيه. ** وتتضمن الأعمال الضرورية للحكومات محاربة ثالوث «الفقر - الجهل - المرض»، في شعوبها، عبر: مساعدة المحتاجين من مواطنيها، والأخذ بيدهم.. ليصبحوا قوة إنتاجية مفيدة، لأنفسهم ولبلادهم. وهذا يعني – بصفة خاصة – قيام الحكومة – أي حكومة – بالالتزام بتوفير الحد الأدنى من «العيش الكريم» لأبناء شعبها. ويتضمن هذا الحد – في رأي الكثير من المعنيين - ما يلي: - توفير فرص العمل أمام القادرين عليه، ومساعدة من لم يجدوا عملاً، أو غير القادرين على العمل - مادياً، وحتى تزول حاجتهم. - القيام بالرعاية الصحية الوقائية.. وتقديم الرعاية الصحية العلاجية الأساسية مجاناً. - توفير التعليم الأساسي مجاناً، وجعله إلزامياً. - مساعدة المواطنين في الحصول على سكن صحي. هذا، إضافة إلى قيام الحكومة بالأعمال الأساسية، والتي تشمل توفير الأمن وحفظ النظام.. إلخ. ** إن كل الحكومات - مهما كانت توجهاتها، ومهما كانت مواردها محدودة – لا بد أن تقوم بما ذكر من «أعمال».. رعاية للمصلحة العامة.. أي مصلحة الجميع. فعدم توفر «الحد الأدنى» من العيش الكريم ستنجم عنه مشاكل وقلاقل لا حصر لها، قد تأتي على الأخضر واليابس، وتهز استقرار وأمن البلاد المعنية، وتنزل الأضرار بكل أهلها. أما في الدول «الريعية» (Revenue States)، وهي الدول التي تمتلك حكوماتها مورداً.. يدر عليها دخلاً دورياً، وتعتبر ملكية هذا المورد عامة، فإن على حكوماتها يقع واجب التوسع في القيام بالأعمال الضرورية، لأقصى حد ممكن. فالملكية العامة لذلك المورد تقتضي أن يتمتع بثمراته كل مواطني البلد الريعي، في هيئة عوائد مادية وخدمية، وغيرها. وهو ما يمكن تقديمه في إطار الأعمال الضرورية. كل ما ذكر ينبغي أن يدفع المتحمسين ل«الخصخصة» المطلقة، ورفع يد الحكومات تماماً عن النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، لمراجعة موقفهم. فهناك اعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية وإنسانية، يجب أخذها في عين الاعتبار، عند الحديث عن الخصخصة، ودور القطاع الخاص، والتغني ب«فضائله». ثم إن الخصخصة التي تحتمها «العولمة» الراهنة لن تكون مفيدة لغالبية سكان العالم، ما لم تأخذ هذه الاعتبارات في حسبانها، بمنتهى الإخلاص والجدية.. إن كان يراد لها أن تكون نعمة – لا نقمة – على البشرية.