انتهي فادي من العزف ونظر نحو الوجوه التي تصفق، لم يجد بينها ما يدفعه للاستمرار، انحنى لقبعته المليئة بالنقود وأشياء أخرى يقدمها بعض الأشخاص كهدية بدلاً من النقود، وكانت هي الأثمن له، مشى متجهاً للشارع الآخر الذي يفصل بينه وبين الشارع الذي تركه زقاق طويلة يسميها المشردون منازل، حين دخل شعر بأحد يتتبعه، ففوجئ بصبيين خلفه، دفعاه فوقع على الأرض وجمعا النقود التي بحوزته، ضحك فادي، فغضب أحد الصبيين وأبرحه ضرباً وشاركه الآخر، فغاب عن الوعي، استيقظ على آلام تحرق جلده، نظر أمامه فوجد رجلاً يجلس على مكتب وبجانبه شمعة تحرق نفسها لتضيء غرفته الضيقة، التفت الرجل وقبل أن ينطق بكلمة، بدأ فادي يلاحق تفاصيل وجهه، عينان حادتان ذابلتان، لحية سوداء يحاول الشيب مزاحمتها، ومن منبت شعره الكثيف تطل خصلات بيضاء، قال وهو يستعد للوقوف: - ملامحك تدفعني لعزف لحن صاخب. وقف الرجل قائلاً: - إلى أين أيها الصغير ما زلت تتألم! -لا تبالغ فأنا معتاد، لكن ما أفقدني الوعي إرهاق جسدي وقسوة من هم بعمري. شرد بنظرة إلى اليمين وقال: صحيح ربما بالغت. - لماذا أشعر بأني قلت شيئاً مزعجاً؟ لا تكترث أيها الصغير. أمسك بذراعه: بل أكترث، إن أردت أن نتحدث وتستفيد من خبراتي الحياتية، سأكون في هذه الشوارع القريبة، لأبحث عن وجوه جديدة أعزفها كلحن. ضحك الرجل بصوت يملؤه الغبار وكأنه لم يضحك من مدة: تتكلم بثقة، لكن كيف تعزف لحناً من الوجوه؟ - أنا لا أقول كل شيء في اللقاء الأول، إن التقينا مرة ثانية أخبرك. خرج وبقي الرجل متعجباً من طريقته، بعد يومين من لقائهما كان فادي يعزف بالقرب من مسكن الرجل، وكان الرجل يشعر بازدحام الناس عليه، فأصابه الفضول للحديث معه، فاستعد وخرج، ومن بين ذلك الازدحام لمح فادي الرجل متجهاً نحوه يحمل خصلاته البيضاء على رأسه وتطل من عينيه نظرة مليئة بالفضول، وقف الرجل يستمع للعزف وحين انتهى فادي التقط حقيبته وما تركه المستمعون واتجه إليه وقال: - كنت متأكدا أنك ستأتي. - أتيت لأسمع عزف عقلك، قبل عزف أصابعك. رافقني يا صاحب الخصلات البيضاء. مشى فادي إلى أن خرج من المدينة والرجل يتبعه ولا يعرف إلى أين يأخذه. وصلا إلى تل كبير يطل على ملامح المدينة، فادي: - عندما بدأت أتعرف على الأشياء وأتخيل ما تسمعه أذني، كان والدي يأتي لهذه المدينة يعزف ما بداخله ويعود، وحين يتحدث مع أمي عن يومه ويصف الازدحام فيها، كنت أتساءل كثيرا كيف يبدو شكلها وكيف يعيشون فيها. - ظننتك تسكنها! - أنا أسكن مدينة بناها والدي بعيدا وبنى معها عقلي وروحي، فهو علمني كيف أعزف وأرسم وكيف أكتب وأقرأ الوجوه والكتب، فقرأ على عقلي كتباً من الفلسفة وعلم النفس والأدب، أورثني الفنون ورحل، وترك لي آلة كمان تصدر صوتا حزينا وكتبا رائحتها قديمة. شاركه الرجل معاناته: - أنا أورثتني حبيبتي الخيبة، ليتها أورثتني طفلاً، يسند خصلاتي البيضاء حين تميل. - ولماذا تركتك؟ - بحجة أني أبالغ والحياة معي ليست بسيطة. - يحزنني قول إن هذه حقيقة واضحة لكنها ليست حجة للرحيل، لا بأس.. تعاف منها وتعلم ألا تبالغ إلا مع نفسك. اكتفى بقول: - تعافيت، إذن، لنجلس واعزف لي لحن ملامحي الصاخب. - يسعدني ذلك.