قبل أربع سنوات توقفت عن الكتابة، لم أكن مشغولا حينها بشيء سوى بسؤال واحد: ماذا بعد؟ ماذا بعد القراءة لعقود؟ ماذا بعد الكتابة لعقد ونصف؟ ماذا بعد هذا كله؟ لم يدم ذلك طويلًا حتى تلقيت اتصالا من شخصٍ عرف نفسه بأنه عبدالعزيز الغامدي، وأنه من طرف فؤاد -طبعا عبدالعزيز لم يذكر ألقابا قبل اسمه رغم أنه كان مهندسا، ويحمل درجة الدكتوراه وهذا ما عرفته لاحقا لكن سجايا عبدالعزيز لا تنتهي- تحدثنا عن الديرة والسيرة والمناخ كفلاحين ينتظران المطر أحدهما من السراة والآخر من تهامة، ثم أجاب عبدالعزيز عن سؤالي المؤرق. أحيانًا تكون لديك كل الأدوات لتكون شيئا لكن السبل تنقطع بك، ويكون حالك كالمنبت، تعيش حيرة، وتنظر من يأخذ بيدك، وتعود طفلا تحتاج إلى رعاية ودلال، وتردد لذاتك «وحدك لن تفعل شيئا» ثم تدرك أنك بحاجة لشخص ما، وأن من الناس من جعله الله مفتاحًا للخير، معينا للخلق، يدفعهم نحو استثمار أدواتهم ومواهبهم، وكان فتح الله لي عن طريق عبدالعزيز، حيث اقترح أن نقوم بعمل تطوعي مشترك يخدم السرد المحلي، فكانت «مبادرة انثيال» التي انطلقت من منصة «إكليل» التي أسسها عبدالعزيز، وبدأت النسخة الأولى من المبادرة، وشهدت إقبالا كبيرًا، استطاع عبدالعزيز والفريق الفني معه إدارة المبادرة بحرفية عالية، وأتذكر أنه في بعض الأحيان يتواصل معي ليخبرني أن هناك عملا يستحق القراءة والاهتمام، لم يكن عبدالعزيز يدير المنصة فقط بل كان يقرأ مشاركات الكتّاب أيضًا، وحتى عندما انتهينا من المرحلة ما قبل الأخيرة، وهي مرحلة التحرير، كان يتواصل مع بعض دور النشر من أجل نشر عمل ما. ثم كانت مخرجات النسخة الأولى خمسة أعمال روائية نشرت لدى أشهر الدور العربية والمحلية، ونافس بعضها في جوائز كبيرة على المستوى العربي، وبعد سنة شرعنا في النسخة الثانية من المبادرة أثناء جائحة كورونا، وقد امتدت مرحلة الكتابة إلى نهاية الحجر، كان خلالها عبدالعزيز متواصلا ومحفزا، وداعما قويًا، وخرجنا من تلك النسخة بخمسة أعمال روائية. «مبادرة انثيال» كانت إكليل التجربة بالنسبة لي، ومشروعا سأفخر به ما حييت، وأتوقع ليس بالنسبة لي بل لجميع من عمل معنا في المبادرة، إشرافا، وتحكيمًا، وتحريرًا. ثم جمعتنا الصداقة والسفر، الذي نلت فيه شرف الرفقة في رحلتين لا تنسيان، كان إنسانًا نبيلًا، وكريمًا، وحكيمًا، يتحدث عن المطر، والشجر، والزراعة، والأدب، والشعر، والعرضة، والتقنية. وأتذكر من مواقفه النبيلة أنه في رحلتنا الأخيرة للشفا، كنت أرتجف من البرد، أنا التهامي الذي لم يعتد على المرتفعات، فما كان منه إلا أن نزع «فروته» ودثرني بها. كان عبدالعزيز لا يرد أحدًا يريد استشارته في أمر ما، خاصة في ما يخص مشاريع الأفراد، يحتفي بكل صاحب فكرة، ومشروع، لا يدخل في صلب الكلام إلا بعد أن يعطي اللقاء بعض المرح والحديث العفوي المبهج ليذهب بعض الحرج -إن كان- ثم يسدي له المشورة والنصح، والتوصيات، وإن كان صديقًا تفقده بين الحين والآخر. عندما تحدثت معه قبل شهور أخبرني أنه يمر بوعكة، وأخذ يخبرني عن أثر الأدوية والنوبات الانفعالية التي تنتابه ونضحك، لم أتوقع أن ضحكة عبدالعزيز تلك سوف تختفي سريعًا عنّا، سريعًا جدًا، ثم بدأ الستار يُسدل عندما أخبرني فؤاد عن التداعيات الأخيرة للمرض، وعرفت أنه سيرحل مبكرًا جدًا مثل كل النبلاء الذين عرفناهم، لا أصدق وأنا أعيد سماع رسائله الأخيرة في الجوال أنه رحل، الحضور والأفكار والسوالف، وعلوم الديار، والحديث عن الطعام، والكتب، والكتابة، والمطر، هل كل ذلك الحضور الكثيف ذهب؟ لا؛ عبدالعزيز لا يذهب، أثره باقٍ، وهو حاضر في قلوب أهله، وأحبابه، وأصدقائه ما دامت تنبض. لن ننساك أبدًا يا أبا محمد، رحمك الله، وجبر المولى قلوب أحبابك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.