ليس هناك مجتمع يخلو من التعدد، فالبدوي، والحضري، والرعوي، والريفي، والقروي، والمدني، والقَبَلِي، والجنسي، والجندري، والعرقيّ، والقِيّميَ، والثّقافيَ، والمعرفي، مكونات اجتماعية وطنية، وكذا على مستوى العقائد، والمذاهب، والأفكار، فالتنوع الفطري ملازم لحياة البشر بحكم طبيعة الأشياء، والنص القرآني يعزز ذلك: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ؛ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). والاختلاف والتنوع ينتج عنه ثقافات وعادات وموروثات وسلوكيات، ويشهد المجتمع تنافساً بين قوى اجتماعيّة منتجة ما ينعكس على الاندماج الإيجابي والتفاعل المتجدد الخالي من الرتابة. ولم تشكل التعددية عبئاً على الدولة الوطنية، طالما تحررت مشاعر الانتماء والولاء، وانعتقت الروح والجسد من أسر الانتماء السلبي للمكون الضيّق أو الصغير، وأخلصت في سبيل حماية وحفظ المكوّن الأكبر (الوطن) بل أنجزت التعددية على مستوى التمدن، والمؤسسية، والتحضر وبناء الوعي، والتمكين من المشاركة السياسية، ما لم ينجزه التعدد المجرد، فيما أخفقت مشاريع منظومات ودول لم تُفلح في خلق التجانس بين المكونات، وكذلك تلك التي لجأت لطمس الهويات التكاملية، ما ينبئنا بالقصور في التحول من حال التعدد إلى حالة التعددية. والاعتراف بالتعدد لا يخُل بالوحدة الوطنية، بل هو إقرار باختلاف الألسن والألوان وأنماط الحياة، ما يتيح للحكومات توظيف التنوع في الإبداع والتفوق والتسامح والإنجاز، ما يحول دون التمييز ونشوب الصراعات العصبية المهددة لأمن وسلامة المجتمع. والتعددية ليست الأرقام ولا تتعلق بعلم النظام، وإنما هي حراك تفاعلي يمنح لكل مكوّن إثبات نفسه، بين ومع مكونات تتفق معه في الاتصال الوجداني بالوطن، وتختلف في مستويات التعبير عن مخرجات الانتماء بالعمل والمنجز والوفاء للتجربة والعهد والإنسان، واندغام الخاص في العام. ويؤكد أستاذ الفلسفة في جامعة ايسكس البريطانية الدكتور لويس رودريغس أن المجتمعات عرفت التنوع الثقافي منذ زمن طويل، إذ كان في اليونان القديمة مناطق صغيرة متنوعة في أزيائها، لهجاتها، وهواياتها، ومثال ذلك أولئك الذين ينحدرون من مناطق إيتوليا، لوكريس، دوريس، إيبروس. فيما شكّل المسلمون في العهود الإسلامية الغالبية مع وجود أقليات مسيحية، ويهودية، ووثنية، وعرب ومجموعات غير عربية. ولفت إلى أن المجتمعات المتنوعة ثقافيا نجحت في القرن الواحد والعشرين، وفي معظم البلدان في صهر خليط بشري من أعراق وخلفيات لغوية وانتماءات دينية مختلفة، مشيراً إلى ما عدّه المنظرون السياسيون المعاصرون ظاهرة تتمثل في التعايش بين الثقافات المتنوعة في البقعة الجغرافية نفسها بفضاء التعددية الثقافية، أي أن أحد معاني التعددية الثقافية هو التعايش بين الثقافات المختلفة. وأضاف «لم يستعمل مصطلح التعددية الثقافية لوصف مجتمع متنوع ثقافيا فحسب، إلا أنه يشير إلى نوع السياسة التي تهدف إلى حماية هذا التنوع الثقافي». موضحاً أن الدراسة المنهجية للتعددية الثقافية في الفلسفة لم تزدهر إلا في نهاية القرن العشرين، عندما بدأت تلقى اهتماماً خاصاً من الفلاسفة، ليغدو موضوعا شائعا في الفلسفة السياسة المعاصرة في القرن الحادي والعشرين، لتغدو التعددية الثقافية موضوعاً في حقل الفلسفة السياسة يسلط الضوء على فكرة أن الهويات الثقافية ذات صلة معيارية بالتعددية وأن السياسات يجب أن تأخد الهويات المختلفة بعين الاعتبار.