دائما ما تكون السير الذاتية للشخصيات القيادية والسياسية في مناصبها المختلفة، بمثابة ميكروسكوب للاطلاع على الأجزاء الدقيقة من نوعية الحياة في صناديق سوداء تحيطها الغموض والأسرار، وهذه السير الذاتية حينما تقدم بحرفية ومهنية ومصداقية ووضوح تكون بمثابة تأريخ لحقب معينة، بالتالي تكون مخزنا مهما جدا للمعلومات والتوثيق. وليس بخافيا على أحد أننا في السعودية نفتقد هذه النوعية من السير الذاتية للشخصيات القيادية والسياسية المختلفة التي تتميز بالجرأة والطرح المباشر البعيد عن التنميق والحذر والتجميل المبالغ فيه. ولذلك عندما تأتي سيرة ذاتية فيها هذه النوعية من المواصفات تكون مفاجأة سارة وإضافة نوعية للمكتبة الوطنية والخاصة والعامة. وهذا تماما ما انطبقت عليه مواصفات كتاب السيرة الذاتية للسيدة هدى الغصن والتي أطلقت عليه اسم «كيان مطلق»، وفيه تقدم مسيرتها المهنية التي امتدت لعقود مهمة من الزمان كانت جزءا رئيسيا من مكونات شركة النفط العملاقة أرامكو حتى تبوأت أحد أهم المناصب القيادية في هذه الشركة الوطنية الكبرى. وبأسلوب جريء وصادق ومحترم تقدم هدى الغصن في مذكراتها الجريئة والفريدة من نوعها قصة حياة شيقة مليئة بالمثابرة والشجاعة والإصرار أمام سلسلة غير عادية من التحديات الاجتماعية والثقافية والمهنية والشخصية، أجبرتها على اتخاذ قرارات صعبة بسبب وضع قيود غير منطقية على نساء جيلها في حقبة مليئة من الزمن كانت فيها المرأة تفتقد إلى أبسط الحقوق والرعاية بما في ذلك أبسط المسائل المتعلقة في حق اختيار مصيرها وطريقها. وتسرد هدى الغصن بسلاسة قصة صعودها من وظيفة روتينية بدائية في شركة أرامكو السعودية العملاقة حتى وصولها إلى دور مهم ومؤثر وفعال في أعلى مرتبة تنفيذية قيادية وصلت إليها امرأة في تاريخ هذه الشركة العملاقة. نشأت مؤلفة الكتاب السيدة هدى الغصن في بيئة ذكورية تقليدية، سيطر عليها مفهوم من الرفض الاجتماعي والتسلط العقائدي المنصب بقوة ضد شخصية المرأة واستقلالها الفكري، إلا أنها بالرغم من كل ذلك لم تستسلم وتكون ضحية لتلك القيود، بل زادها ذلك الأمر حماسة ومنحها إرادة مكّنها من التغلب على التمييز والتنمر والتفرقة حتى لو كلفها ذلك الأمر تضحيات جسيمة على المستوى الإنساني. ومن خلال هذا السرد بالإمكان التعرف لها على الكثير من الأسرار الخاصة بكيفية اتخاذ القرارات الإدارية في هذه الشركة العملاقة التي يفتخر السعوديون جميعا بها وبمكانتها في اقتصادهم وفي منهجها الإداري المميز، وأيضا يحق لهم أن يفتخروا بهدى الغصن التي تقدم من خلال مذكراتها أسلوبا يفتخر به ويستحق التقدير، وهي في سيرتها لم تقبل أن تؤدي دور الأنثى التقليدية ولكنها كانت ثابتة وحازمة في وجه المضايقات المتواصلة والمستمرة، وأجبرت كل من كان يقف ويحاول أن يحبط عزيمتها عند حده وذلك بنجاحها وتميزها وإثبات ذاتها. وأوضحت هدى الغصن من خلال هذه المذكرات من وقف معها ومن أيّدها ومن ساندها ومن حاول عرقلة عملها ومسيرتها أو إحباط معنوياتها، وتسرد أيضا علاقتها بأسرتها ومساندة هذه الأسرة الكريمة لها ودعمها المستمر حتى أصبحت مصدرا للفخر والاعتزاز لكل أفراد العائلة. يقدم هذا الكتاب نظرة متعمقة مليئة بالخصوصية عن سيرة حياة لشخصية مهمة في أكبر شركة في السعودية بأسلوب خاص وهادئ وحاسم، شخصية كافحت من أجل أن تكون هناك منظومة تعترف بقدرات وفكر شخصية المرأة الفردية فاتحة المجال للكثير غيرها من بعدها. الكتاب ممتع للغاية وشيق لأبعد الحدود وهو يتميز عن السير الذاتية الأخرى بأنه غاص في الكثير من الحقائق الاجتماعية التي كانت تحيط بالمرأة في حقبة من الزمن، وكيف تمكنت من مواجهة العقد والتعقيدات حتى وصلت إلى أهم المراكز. هدى الغصن شخصية تستحق الاحترام والتقدير وسيرتها تقدم أكبر برهان على ذلك.