ضمن أنشطته الثقافية، أقام كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية في جامعة اليمامة بالرياض لقاء علميًّا للدكتور صالح بن معيض الغامدي للحديث حول «كتابة الذات والسيرة الذاتية» يوم الثلاثاء 21 رجب 1438ه، الموافق 18 إبريل 2017، الساعة 12:30 ظهرًا في مقر الجامعة. المحاضر هو الأستاذ الدكتور صالح معيض الغامدي العميد السابق لكلية الآداب والمشرف على كرسي الأدب السعودي في جامعة الملك سعود وأستاذ الأدب العربي وعضو اللجنة العلمية لكرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية. ويعد الأستاذ الدكتور صالح الغامدي من المتخصصين في مجال السيرة الذاتية، وله مجموعة بحوث ومؤلفات حول هذا الموضوع، وله أطروحات حول «كتابة الذات» في النصوص النثرية والشعرية، وله دراسات حول أبرز السير الذاتية التي كتبها مشاهير بأنفسهم لعرض مسيرة حياتهم، أو كتبت لهم من آخرين لإبراز جوانب معينة في حياتهم. وقد استهل الدكتور صالح الغامدي اللقاء بشكر جامعة اليمامة وكرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية على هذه الاستضافة، ثم تحدث عن الفرق بين كتابة السيرة العملية التي يتقدم بها الشخص طالبًا وظيفة أو معرِّفًا بنفسه، والسيرة الأدبية التي يكتبها الأشخاص لعرض تجاربهم وجوانب من حياتهم الشخصية على شكل قصصي. ثم تناول تاريخ كتابة السيرة في الثقافة العربية والإسلامية، ثم في الثقافات الغربية، واستعرض نماذج من السير الذاتية في التاريخ العربي والغربي موضحًا التطورات التي مرت عليها كتابة السيرة الذاتية، وأوضح العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية ومجالات التداخل بينهما شارحًا أن الكاتب يعتمد على مجموعة من المصادر، منها ذاته وما عاشه من تجارب، لكنه قد يعتمد مصادر أخرى؛ ما يجعل السيرة الذاتية ليست بالضرورة معبِّرة عن الشخص بقدر ما تحوي أحداثًا متخيلة. على أن كاتب السيرة الذاتية يكتبها من منظوره هو حينما يتكلم عن ذاته في مرحلة الطفولة، وكأنه يكتب عن شخص آخر كما يتخيله. وقد تجاوب مع الأسئلة والمداخلات من الحضور حول مدى حضور مكان الطفولة في السيرة الذاتية، وعن علاقة «قصص النجاح» التي يكتبها الشباب ممن يواجهون صعوبات محددة فيتجاوزونها بالسيرة الذاتية، وعن كيفية البداية في كتابة السيرة الذاتية ومستوى الأسرار والفضائح التي يمكن أن تحتويها السيرة الذاتية. وفيما يأتي عرض مختصر لأبرز ما ورد في المحاضرة: الإطار النظري للسيرة الذاتية في البداية، أوضح المحاضر مفهوم «السيرة» في اللغة العربية بأنها الطريقة والسُّنة والمنهج، وحالة الشخص ووصفه وسط الناس، فيقال «سيرته حسنة»، إشارة إلى حسن خلق الشخص وفعله. أما من حيث المصطلح فإن السيرة الذاتية هي أحد الأنواع الأدبية النثرية. وهناك نوعان من السيرة الذاتية: «السيرة العملية» و»السيرة الأدبية». على أن السيرة العملية وهي تصف صاحبها بمنزلة المتحدث باسم الشخص، وتعتبر أداة ترويجية وتسويقية لصاحبها عند التقديم للوظائف المختلفة أو للترشح للمناصب أو التقديم على فرصة دراسية أكاديمية.. ويعتمد ذلك على مهارة الأشخاص وقدراتهم وخبراتهم ومناسبة مؤهلاتهم للعمل أو مجال الترشيح. وتعرف السيرة الذاتية العملية على أنها وثيقة تتضمن تعريفًا موجزًا بالشخص وكشفًا عن مهاراته الشخصية والعملية وخبراته ومؤهلاته العلمية وغيرها، ويطلق عليها اسم Curriculum Vitae، واختصارها CV. وهناك طرق عدة لكتابة السيرة العملية. وعلى العموم، من المهم أن تشتمل على وصف عام لما يتعلق بالشخص، كالمعلومات الشخصية: الاسم وتاريخ الولادة، بما في ذلك اليوم والشهر والسنة والجنس ومكان الولادة والجنسية.. ومعلومات الاتصال، ومعلومات حول المؤهلات العلمية ابتداء من الدراسة الثانوية، ثم الجامعية، ثم الدراسات العليا إن وُجدت، والدورات التدريبية، والخبرات العملية مع تحديد سنوات البداية والنهاية، وتواريخ الالتحاق بهذه الأعمال. وتتضمن كذلك عرضًا بأبرز المهارات الشخصية والعملية التي يتمتع بها الشخص. وقد يكون من المناسب أن تحتوي على وصف دقيق للأهداف التي يسعى الشخص لتحقيقها في صلب مجال دراسته وخبراته إذا كانت هذه السيرة متعلقة بالتقديم على دراسات عليا على سبيل المثال. ومن الضروري أن تكون لغة السيرة الذاتية واضحة وسهلة وخالية من الأخطاء اللغوية، وتبتعد عن المبالغة والتهويل. كما أوضح المحاضر أن هناك إشكالية في تعريف السيرة الذاتية الأدبية (Autobiography)؛ فهناك من اعتبرها وصفًا لحياة شخص بواسطة الشخص نفسه، وهناك من عرفها بأنها (كتابة شخص قصة حياته)، وهناك من وضع شروطًا في التعرف مثل (أن يكتب إنسان تاريخ حياته مسجلاً حوادثها ووقائعها المؤثرة في سير حياته متابعًا تطورها الطبيعي من الطفولة إلى الشباب ثم الكهولة). وهناك تعريف آخر، مفاده أن السيرة الذاتية (قصة استعادية نثرية، يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص مركزًا حديثه على حياته الفردية وعلى تكوين شخصيته بالخصوص)، وغير ذلك من التعريفات، مبرزًا أقرب تلك التعريفات التي يراها، وهو أن السيرة الذاتية (تسجيل استعاري صادق لعمر أو لعدد معتبر من سنوات العمر من الخبرات والأفعال والتفاعلات وتأثيراتها الفورية وبعيدة المدى على الشخص). وبيَّن الفرق والتداخلات بين السيرة الذاتية وكتابة المذكرات اليومية (Memoirs) والاعترافات الشخصية (Confessions)، مثل اعترافات أوغسطين الشهيرة. وهذان شكلان من الكتابة عن الذات، ويمكن أن يستفاد منهما عند كتابة السيرة الذاتية. تاريخ السيرة الذاتية وذكر المحاضر أن السيرة النبوية من أولى كتابات السيرة في تاريخ الأدب العربي، لكنها «سيرة غيرية»، أي كتبها شخص غير صاحبها، وكما هو الحال حينما يعهد صاحب السيرة الذاتية بالكتابة والصياغة إلى أحد الكتّاب بعد إعطائهم المعلومات اللازمة. على أن أصول كتابة السيرة الذاتية - بشكلها الأدبي المتعارف عليه حاليًا - ترجع إلى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، حينما أصدر كتابه «الاعترافات» بحدود عام 1700م، وتبعه العديد من الكتّاب والمفكرين في أوروبا، حتى انتقلت كتابة السيرة إلى اللغة العربية؛ فظهر أحمد فارس الشدياق الذي أصدر كتابه في باريس في عام 1855م، وأصدر عبد الرحمن شكري سيرة ذاتية في مدينة الإسكندرية، أسماها «الاعترافات» عام 1916م. ويعد طه حسين من أبرز كتّاب السيرة الذاتية العربية بإصداره كتاب «الأيام»، ومن بعده أصدر العديد من الأدباء والمفكرين سيرهم الذاتية كأحمد أمين وإبراهيم المازني وعباس محمود العقاد، وغيرهم. أشكال أدبية أخرى وذكر أن هناك أعمالاً نثرية أخرى في تراثنا العربي، تركز على وصف العالم الخارجي، ولا تسرد قصة حياة الكاتب، مثل: «كتب الرحلات»، و»الرسائل الإخوانية»، و»الرسائل الأدبية»، و»كتب النصائح والوصايا». موضحًا صعوبة تحديد بدايات ظهور السيرة الذاتية في الأدب العربي؛ فطه حسين مثلاً يرى أن سيرة ابن خلدون هي أول سيرة ذاتية، ويرى فيليب حتى أن سيرة أسامة بن منقذ «الاعتبار» هي أول سيرة ذاتية في الأدب العربي، في حين يرى أنور الجندي أن أول سيرة ذاتية يكتب فيها مؤلف اعترافاته ويومياته هي للإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال». وهناك من ينكر وجود السيرة الذاتية في أدبنا العربي القديم؛ إذ يرى عز الدين إسماعيل أن السيرة الذاتية جنس جديد في العربية، وأول سيرة ذاتية هي «الأيام» لطه حسين. السيرة الذاتية والرواية يربط بعض النقاد بين بطل الرواية والمؤلف معتبرًا أن حياة البطل ليست إلا صورة للمؤلف. وهناك من يرى أن بعض الكتّاب يستخدمون الرواية والقصة أقنعة لكتابة سيرهم الذاتية؛ لأنها تمكنهم من التحرر من سطوة الرقيب بكل أشكاله. لكن طالما أن المؤلف كتب على كتابه أنه رواية فلا بد أن نحترم ما يعرف بالعقد القرائي الذي يحدده الكاتب لنصه. أسباب كتابة السيرة الذاتية إن نزعة التعبير عن النفس مسؤولة عن تطور الشعر الغنائي والسيرة الذاتية في الأدب العربي القديم، وتستمد قوتها من التراث العربي؛ فالثقافة العربية خلقت أو ساعدت على خلق شكل قصصي، يتخذ من الشخصية الفردية مركزًا له على غرار ما نجده في أخبار العرب كأيام العرب. على أن دوافع كتابة السيرة الذاتية تختلف من شخص لآخر؛ فهناك من يسعى إلى الشهرة، وهناك من يريد تقديم جانب معرفي لتعليم الآخرين، وهناك من يريد توثيق فترة تاريخية معينة، وهناك من لديه أغراض ذاتية لتبرير موقف أو الاعتذار عن سلوك، أو تفسير أحداث معينة في حياته.. وهناك من يكتب سيرته الذاتية استمتاعًا باسترجاع الماضي، أو لمحاولة إعطاء الحياة التي عاشها الفرد معنى ما. على أن هناك سببًا دينيًّا مهمًّا، يدفع الكاتب في ثقافتنا العربية إلى كتابة سيرته الذاتية، هو التحدث بنعمة الله سبحانه، عملاً بقوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدِّث}. ومفهوم «النعمة» هنا لا يعني بالضرورة سرد الأحداث الإيجابية في حياة الكاتب، بل يعني أيضًا سرد الأحداث المأساوية والمصائب التي لحقت به والبلاءات التي مر بها الكاتب باعتبارها امتحانًا من الله الذي يبتلي بالنِّعَم كما يبتلي بالمصائب. الحقيقة والاختلاق في السيرة الذاتية إن البحث عن الحقيقة المطلقة في السيرة الذاتية صعب، إن لم يكن مستحيلاً؛ والسبب يعود إلى أننا لا نملك مقياسًا دقيقًا نقيس به حقيقة هذه السيرة؛ ولهذا فهناك تداخل بين ما هو حقيقي وما هو مختلق من الأحداث داخل السيرة الذاتية؛ إذ يكفي أن كاتب السيرة الذاتية يكتب من خلال رؤيته الشخصية لنفسه وهو في مرحلة سابقة من حياته، وكأنه يعزل نفسه الراوية عن نفسه الأخرى التي يكتب عنها. كما أن روايته لعلاقاته مع الآخرين إنما يعبِّر عنها من خلال الزاوية الخاصة به التي ربما لا يتفق فيها معه الآخرون. أضف إلى ذلك أن الكاتب قد مارس أسلوب الاختيار والانتخاب للأحداث التي يرويها عن نفسه حسب الأهمية التي يعلقها عليها، ولم يكن ممكنًا سرد قصة حياته كلها؛ لأن ذلك يحتاج إلى زمن يساوي أضعاف أضعاف الزمن الذي عاشه. ونظرًا لاستحالة تحقق الصدق المطلق بمعناه الأخلاقي أو الواقعي في السيرة الذاتية فإن بعض النقاد يؤكدون ضرورة تحقق الصدق الفني، وهو صدق الكاتب في التعبير عن مشاعره وأفكاره عند الكتابة. ولأنه لا يوجد لدينا قصة حقيقية سابقة لهذه السيرة، فنقيس عليها مصداقية الكاتب، فإن مصداقيته مرتبطة بقدرته على إقناعنا بما يكتب. أنواع كتابة السيرة الذاتية لكل كاتب طريقته في اتخاذ إطار معين لكتابة سيرته الذاتية؛ فهناك من يتخذ من الإطار الزماني أساسًا لكتابة سيرته من الطفولة، ثم الشباب، حتى يصل إلى عمره الذي يكتب فيه. وهناك من يتخذ من الإطار المكاني للأحداث، ثم يقسم سيرته بناء على ذلك. وهناك من يوزع سيرته الذاتية حسب الأحداث التي مرت به.. على أن هناك من يكتب سيرته الذاتية بشكل مجزأ إلى مجموعة أجزاء، كما فعل غازي القصيبي الذي ذكر شطرًا من سيرته الذاتية منجمًا حسب المجالات التي يراها؛ فكتب عن سيرته في العمل الإداري في كتابه «حياة في الإدارة»، وسيرته في العمل الدبلوماسي في «سعادة السفير» و»الوزير المرافق»، وسيرته الأدبية في «سيرة شعرية»، وحياته الدراسية في مصر «شقة الحرية»، وحياته الدراسية في أمريكا في «سائح إلى كاليفورنيا». وهناك نوع آخر من السيرة الذاتية، هو «السيرة الذاتية البصرية» التي تعتمد على مقاطع فيديو وصور فوتوغرافية مدعومة بمعلومات يقولها الشخص عن نفسه. كما ظهر نوع آخر يطلق عليه اسم «التخييل الذاتي»، يعبر فيه الكاتب عن نفسه، وفي الوقت ذاته لا يعد ذلك الحديث معلومات شخصية عنه، وإنما هي معلومات عن شخص آخر يعرفه، وكأنه يقرأ ذاته وهي منفصلة عنه خياليًّا. وكأن هذا النوع من السيرة الذاتية محاولة لفض الاشتباك المتداخل بين السيرة الذاتية والرواية. حضور مرحلة الطفولة في السيرة الذاتية يلاحظ أن أغلب السير الذاتية تتخذ من مرحلة الطفولة مجالاً رحبًا لها؛ فهناك تعلُّق شديد بهذه المرحلة، فلا يفتأ كتَّاب السيرة الذاتية يمحتون من معين تجارب الطفولة طوال سني عمرهم نظرًا لثراء تجارب الطفولة بالمواقف الجديدة والمؤثرة، ولحنين بعض الكتاب إلى تلك المرحلة التي يشعرون أنهم ابتعدوا عنها في مرحلة لاحقة من مراحل حياتهم.