من المؤكد أن لدى نيودلهي هواجس متعددة من المشهد الأفغاني المتغير على ضوء السيطرة المتوقعة لطالبان على الحكم، وهذا سيكون حتما بمثابة انتكاسة للحكومة الهندية التي وضعت كل بيضها في سلة الرئيس أشرف غني، كونها أنفقت خلال السنوات الماضية مليارات الدولارات في مشاريع تنموية في أفغانستان التي دمرتها الحروب لكي يكون لها اليد الطولى في المياه الدافئة.. إلا أن الهند وجدت نفسها بعد هذه الاستثمارات المليارية أمام العديد من الخيارات الصعبة في التعامل مع الوضع الذي سينتج في مرحلة ما بعد سيطرة طالبان على الحكم وانتهاء دور الحكومة الأفغانية التي كانت تدعمها نيودلهي.. وأضحت المسارات المستقبلية المقلقة في أفغانستان هي الهاجس الرئيسي للمنظومة الأمنية الاستخباراتية الهندية. وتعد أفغانستان ذات أهمية جيوإسترايتجية واقتصادية للهند، ليس فقط لأنها تمنحها عمقاً إستراتيجياً في الفناء الخلفي لجارتها «اللدود» باكستان، ولكنها تفتح لنيودلهي أيضاً أسواق آسيا الوسطى الغنية بالطاقة وتمنع الصين من وضع قدمها في أفغانستان، كونها تعلم أن تغلغل الصين الحتمي في المرحلة القادمة داخل المفاصل الأفغانية سيؤدي إلى تحجيم دور الهند، باعتبار أن الصين المتوضعة إستراتيجيا أساسا مع باكستانوإيران وروسيا ودول آسيا الوسطى عبر مبادرة الحزام والطريق ستأكل الأخضر واليابس لتكون الدولة الأقوى والأكثر تأثيرا اقتصاديا ونفطيا وعسكريا وأمنيا، كونها تسيطر على الممرات المائية الباردة والدافئة والحارة، إلى جانب إنشائها مدن الطاقة والطرق السريعة والتجارة والموانئ من خلال مشروع الممر الاقتصادي الباكستاني - الصيني (سي بيك) والمعاهدة الربع قرنية مع إيران، إلى جانب مخرجات مبادرة الحزام والطريق في دول آسيا الوسطي وأفغانستان. ومن المؤكد أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان غيّر كثيرا من الأوضاع الجيوإستراتيجية في جنوب آسيا، وآسيا بشكل عام، وهناك شعور بأن الهند هي الخاسر الرئيسي من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ما يعني أن دور الهند سيتضاءل إلى حد كبير في تنمية أفغانستان. وتنظر الهند إلى التطورات الأفغانية الأخيرة بخوف مبرر في الغالب، نظراً لتاريخها السابق مع أفغانستان عندما كانت تسيطر عليها حركة طالبان بين عامي 1996 و2001. ومن المؤكد أن المعطيات الجديدة ستغير ليس سياسات نيودلهي فحسب، بل سياسات دول جنوب آسيا ودول آسيا الوسطي وطبيعة النظرة الروسية حيال طالبان، كونها حقيقة على أرض الواقع اليوم ولا يمكن تجاهلها.. وقد تضطر نيودلهي لتغيير في سياساتها المتعلقة في التعامل مع طالبان وأفغانستان التي نأت نيودلهي بنفسها عنها طوال السنوات الماضية.. إلا أن مصادر أفغانية أشارت إلى أن ثمة متغيرات قد تطرأ في التفكير الهندي الجيوإستراتيجي، وقد تنخرط نيودلهي في مسائل حوارية جوهرية مع طالبان لكي لا تنعزل نيودلهي وتخسر سياسيا وأمنيا واقتصاديا في أفغانستان. وفي المقابل، من المحتمل أن ترحب حركة طالبان الأفغانية بالتقارب مع الهند، لاسيما أن هناك حسابات ومتغيرات دولية وإقليمية تدعم بقوة احتمالات حدوث هذا التقارب خلال الفترة القادمة، خصوصا إذا صدقت التوقعات بأن حركة طالبان الجديدة في عام 2021 ستكون مختلفة عن طالبان ذات التفكير المنغلق والبدائي. وعليه، فإن احتمالات حدوث حوار بين الهند وطالبان وارد كون «كل شيء جائز في الحب والحرب» والمصالح هي التي تحكم العلاقات.. وثمة إجماع في الدوائر الإستراتيجية الهندية مفادُه بأن حركة طالبان تعتبر عدائية، إلا أنه منذ عام 2001 لم تُدلِ طالبان بأي تصريحات مُعادية للهند، ولم تهاجم المشاريع التي تمولها الهند في أفغانستان. وقد تواصلت وكالات الاستخبارات الهندية في السنوات الأخيرة مع العناصر المهيمنة في حركة طالبان، وجرى إطلاق سراح المهندسين والعاملين الهنود المخطوفين السبعة الذين كانوا يعملون في مقاطعة باغلان بأفغانستان في مايو 2018 بهدوء على دفعات، كان آخرها في سبتمبر 2020، من خلال المفاوضات مع طالبان. وتذهب تقديرات هندية إلى أن حركة طالبان ليست بالضرورة متجانسة، وأن هناك صراعات داخلها يمكن للهند الاستفادة منها لصالحها، ولا ينبغي النظر إلى طالبان من خلال المنظور الديني فحسب، بل من خلال الإطار الإثني القومي الأوسع، فطالبان فخورون بالبشتون وقوميون للغاية، وبمجرد أن تصبح طالبان جزءاً من حكومة أفغانية قوية وآمنة ومستقرة، فإنها ستطالب بإعادة أراضيها التي يسكنها البشتون في باكستان، إذ لم تصدق أي حكومة أفغانية على الحدود بين البلدين (خط دوراند)، بما في ذلك الحكومة التي قادتها طالبان بين عامي 1996 و2001. من المنظور الغربي يصعب الاعتقاد أن الهند -أكبر ديموقراطية في العالم- قد تتواصل مع طالبان التي أظهرت بغضها للديموقراطية. وتناولت مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تحليل لها أخيرا بعنوان «الهند تسارع لخطب ود طالبان»، وألقى الضوء على المأزق الهندي، المتمثل أساساً في دعم نيودلهي لحكومة كابول التي لا تبدو في وضع جيد مقارنة بطالبان، خصوصا أن هناك خوفا ملموسا في نيودلهي من أن عودة طالبان إلى السلطة قد تعني عودة الجماعات التي لديها تاريخ من مهاجمة الهند. ويخوض المحللون الهنود نقاشاً حامياً حول ما إذا كان ينبغي على الهند هي الأخرى التواصل مع طالبان في وقتٍ سابق حين كانت الحركة بحاجة إلى اعتراف نيودلهي. وظلت الهند متمسكة بمعارضتها المبدئية للحركة ووقفت بجانب حلفائها في الحكومة الأفغانية. وتتخوف الهند من تعزيز باكستان لقوتها في أفغانستان، وبالتالي ستخلق بيئة معاكسة على الحدود الغربية للهند. ولم تكن الهند متحمسة مطلقاً لتقارب واشنطن مع «طالبان». كما أن دلهي نأت بنفسها عن أي اتصال رسمي مع «طالبان». ويقول المنتقدون إن تلك السياسة صارمة للغاية، بحيث لا يمكنها التعامل مع الوضع الأفغاني الديناميكي. إن التقدم الذي أحرزته طالبان أخيراً حظي بمراقبة حثيثة من الجانب الهندي وأوروبا الشرقية، حيث من شأن سقوط كابول أن ينذر بتداعيات وتبعات جيوسياسية هائلة. ويهدد سيناريو الحرب بشكل مباشر المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية للهند في أفغانستان. ومن المؤكد أن الهند تعيد قراءة المشهد الأفغاني الجديد ولا ترغب في خسارة المليارات التي أنفقتها أخيرا، فضلا عن أنها لن تسمح لباكستان بالسيطرة الكاملة على أفغانستان، كون ذلك يمثل تهديدا للأمن الهندي، إذ ترى نيودلهي أن تزايد التأثير الباكستاني في أفغانستان سيؤدي إلى دعم الحركات والمنظمات في كشمير التي تقع تحت الإدارة الهندية، كما تزعم نيودلهي. بالمقابل، فإن الشراكة بين الهند والولايات المتحدة كانت قائمة بالأساس على محرك محوري هو القلق والتوجس المشترك من الصين، لكن نيودلهي وجدت نفسها في مأزق بعد الانسحاب الأمريكي وأدى لحدوث اضطراب في أولويات الشراكة بين واشنطنونيودلهي، ولهذا خيَّم موضوع أفغانستان في المرحلة القادمة بشكلٍ كبير على زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أخيرا لنيودلهي، بالنظرة إلى الحيز الكبير الذي يشغله الانسحاب الأمريكي في تركيز سياسة إدارة بايدن داخل منطقة جنوب آسيا، وتدخل الهند المتزايد في الدبلوماسية الإقليمية التي تُركّز على أفغانستان.