قبل أيام كنت منهمكاً في قراءة بعض الأخبار العالمية التي قادني بعض منها للقراءة عن تاريخ أوروبا، وخلال تنقلي بين محركات البحث حطت رحالي في السويد، فأخذت أتعمق قليلاً في القراءة عن تلك الدولة الاسكندنافية التي تقع في شمال أوروبا، ولعل الكثيرين لا يعرفون عنها أكثر من كونها الدولة الأم لسيارات «فولفو» الشهيرة، وما لفت انتباهي خلال القراءة أن هذه الشركة الرائدة في صناعة السيارات قد باتت ملكاً لشركة «جيلي» القابضة الصينية والتي يملكها الملياردير الصيني «لي شوفو»، وتعجبت عندما علمت أن هذا الملياردير الصيني هو رئيس لمجلس إدارة شركة فولفو، ودفعني الفضول للبحث قليلاً في تاريخ هذا الملياردير ذي الثمانية والخمسين عاماً. نشأ الرجل في إحدى مقاطعات الصين كابن صغير لمزارع بسيط، غير أن هذا العمل من الواضح أنه لم يرق له، فتركه بعد فترة ليعمل مصوراً للسياح في أماكن عدة بالصين، بيد أن مهنة التصوير على ما يبدو لم تكن مربحة بما يكفي فتركها ليقتحم مجال عمل آخر مختلف تماماً، حيث فكر «لي» في خوض مجال الصناعة الواعد، غير أنه لم يكن معه من الأموال ما يكفي لذلك، وبعد محاولات عدة لم تكلل بالنجاح التام تمكن أخيراً بعد حصوله على قرض من عائلته وأصدقائه أن يخوض غمار مجال تصنيع الثلاجات الصغيرة وبيعها، وهو ما حقق له أرباحاً وفيرة، وعلى الرغم من ذلك لم يكن «لي» مقتنعاً أن حلم حياته سيتحقق من خلال امتهان تلك الصناعة، لذلك بدأ بإنتاج الدراجات النارية التي كشفت عن هوسه بصناعة، وهو ما توّجه بخوض غمار عالم السيارات، لهذا تقدم لاحقاً لنيل رخصة لتصنيع السيارات ليبدأ عمله في هذا المجال. أراد «لي» استنساخ التجربة اليابانية في صناعة السيارات الاقتصادية الصغيرة، وقد كانت شركته من أوائل شركات صناعة السيارات الصينية، وبالفعل تمكن من تصنيع السيارة التي عرفها العالم لاحقاً باسم «جيلي» التي تعني بالصينية «محظوظ»، ومن الأمور اللافتة أن تلقى تلك السيارة رواجاً في السوق الصيني العملاق كونها باكورة الإنتاج الصناعي الصيني في مجال السيارات، ولعل هذا النجاح لم يكن وليد الصدفة، بل كان نتاجاً مباشراً لتفكير رجل الطموح، يمتلك الكثير من النظرات الثاقبة في مجال الصناعة وريادة الأعمال. آمن «لي» بأن الفرص من الصعب أن تتكرر في حياة المرء مرتين، وأن رجل الأعمال الناجح يجب أن يقتنص فرص السوق، لذلك عندما نما لعلمه أن شركة «فورد» المالكة لشركة فولفو السويدية تمر ببعض الاختناقات المالية، وجد بغيته في تلك الصفقة التي غيرت حياته رأساً على عقب فيما بعد، حيث قرر «لي» شراء فولفو رغم المشاكل الهيكلية العميقة التي كانت تمر بها، غير أن «لي» كان على يقين من أن الإدارة الناجحة يمكنها حل جميع المشاكل، ولهذا لم يتردد وسارع بشراء فولفو وضمها لشركته الأصلية جيلي، وتدريجياً تمكن على نحو مبهر فعلياً من تحقيق تحول جذري لشركة فولفو أهّلتها لأن تكون إحدى الشركات الرائدة في صناعة السيارات. لم تتوقف طموحات «لي» عند هذا فأعقبها بعقد نجاحات أخرى تالية عديدة (لعل أهمها شرائه لشركة تاكسي لندن إلى أن استحوذ عليها لاحقاً، وكذلك الاستثمار في شراء حصة من شركة دايملر الألمانية التي تمتلك مرسيدس بنز) وقد تمكن هذا المليادير من قراءة معادلة النجاح العملية في السوق التنافسية وتحديد مكوناتها، وتحديد ما إذا كانت تلك المكونات هي مزيج من الحظ والثراء العائلي أم أن محورها هو الذكاء العملي والطموح وحسن قراءة الواقع؟. ذكرتني قصة «لي شوفو» بإحدى رحلاتي لمدينة بومباي الهندية في ثمانينات القرن الماضي (والتي تغير اسمها في عام 1996 إلى مومباي)، عندما كنت أتجول بأحد أسواق المدينة الشهيرة ببيع العود الهندي، وخلال دخولي أحدها تجاذبت أطراف الحديث مع بعض البائعين، وخلال الحوار أشار أحدهم لصاحب المحل الشاب الذي كان جالساً في صدارة محله، ذهبت إليه وكان مرحاً ودوداً مع عملاء متجره يبادرهم بالابتسامة والتحية، وتجاذبت معه الحديث وسألني عن مكان إقامتي في بومباي فأجبته: فندق تاج محل بالاس، صمت قليلاً ثم قال لي: هل تعلم لقد كنت بائعاً متجولاً في هذا الفندق، حيث أخبرني أنه كان يقوم باستدانة بعض قطع التحف «سوفونير» من بعض أصدقائه التجار ثم يقوم ببيعها للسياح مقابل عمولة، إلى أن تمكن بعدها من فتح محل صغير لبيع التحف لكن سرعان ما تخلى عنه بعد تحقيقه لبعض المكاسب، ليبدأ نشاطه في تجارة العطور التي تتميز بها الهند، وعندها عقبت بقولي مبتسماً: يبدو أن لك عقلية تجارية، أجاب ضاحكاً بعربية مكسرة: «عقل في.. فلوس في..!» ليس لدي شك في أن معادلة النجاح في أسواق المملكة متوافرة، فعلى سبيل المثال أشرت سابقاً ومن خلال مقالات عدة لمدى أهمية توطين الصناعات الثقيلة ولا سيما مجال صناعة السيارات، وبخلاف أن ذلك سيحقق الاكتفاء الذاتي وتوطين الصناعات الاستراتيجية فإن تلك الخطوة ستوفر للدولة الكثير من المبالغ الطائلة التي يتم إنفاقها كل سنة لشراء السيارات المستوردة، فما أحوجنا لإعادة قراءة الواقع من ذلك المنظور البسيط، وما أشد حاجتنا للتسلح بالذكاء العملي وحسن التخطيط للعبور من تلك المرحلة الدقيقة لعالم النجاح الواسع والاستقرار والازدهار.