كان الزمان أواخر الربيع وتساليم الصيف، وكان المقصد مدينة تتناثر منازلها كحبات بيض على بقايا تاريخ (الجهوة).. عبرت مركبتنا صعودا عقبة (سنان) المنسوبة للضابط العثماني سنان باشا الذي قتله بنو شهر؛ دفاعا عن أرضهم. كانت شمس الأصيل تلوّح بالوداع، فسرنا تشمخ أمامنا جبال الحجر بقممها السامقة وتتثاءب خلفنا رمال تهامة ونحن نلمح في كل شعب أو تلعة الزهوَ بسلسبيل بقايا مطر الأمس، والركب يتبادلون الأشعار وطريف الأخبار لزمن الماضي الندي، ويصغون لكلمات رفيق الدرب الشاعر صالح الشادي، ويتناوشون طرفا من إيقاعات علي السالمي، وتعليقات آل صبيح وتؤنسهم ابتسامة آل منصور ويراجعون «تقول الله يطعني» مع سعد زهير ومفتي الرحلة الجبيري يتمتم بتسبيحاته كلما مررنا بمنظر جمالي.. لا يقطعها إلا تحذيرات وليد بالمنحنيات الخطرة.. حتى إذا ما وصلنا قصر العسبلي -ذاك المكان الوادع المكنوف بأشجار العرعر، والمزدان بالقطوف الدانية من الفواكه- خرج لنا الرجال وفي أيديهم المباخر، يرددون أهازيج الجذل بمقدم الضيوف.. أرسلت السماء أضواءها اللينة الرخية على التلال الخضراء لحظة وصولنا، ثمّ أقبل علينا (بنو شهر) إقبال الربيع، يمرعون الأرض خصبا، ويفيضون على القادم وئاما وغبطة.. تراحيبهم تملأ أسماع الزمن... حينها خلت هذه المدينة تهمس لي -ولكل قادم إليها- قائلة: «عانقني ولا تخش، فزهري لا شوك فيه». كانت اللحظة الأولى التي تطأ قدمي هذه المدينة.. بدأت أتأمل بيوتها التي تربط بين الأزمنة.. ترتدي جلبابا عصريا وأحشاؤها ماضوية حجريّة.. طافت بذاكرتي سيرة قائد الفاتحين علقمة الحجري، وإمام الفقهاء الطحاوي مرورا بمحمد بن دهمان، وانتهاء ب(علي بن عبدالرحمن العسبلي) قائد شوكة رجال الحجر في توحيد المملكة ومسلِّم الراية للجيش السعودي.. لم أرد إشغال نفسي بقراءة ما قاله الهمداني عن (الجهوة) في كتابه «صفة جزيرة العرب» كيلا يسرقني الوقت عن تأمل القلاع والحصون والنقوش، والبيوت العتيقة التي أقرأ على أركان نوافذها العريضة حكايات لا تسردها حروفي وعلى أبوابها المشرعة قصة باسمة لا تتسع لشرحها ظروفي غير أن كل حجر أو شجر فيها يحمل عليل عطرها ويلوّح للزائرين بالترحاب، ويغري كلّ ضيف بالولوج دون استحياء أو تردد.. كنت أحتسي قهوة المضيّف (الشيخ عبد الله العسبلي) وعقلي يجوس خلال التاريخ.. مارّا على دلالة النماص المعنويّة، وما حولها من آراء، وهل سميت لكثرة أشجار النمص، أو دلالة على الشهر، وبها سُمي بنو شهر.. ومتوقّفا عند قناعتي بالمسمى الذي رسمه امرؤ القيس في قوله: تَرعت بحبل ابني زهير كليهما نماصين حتى ضاق منها جلودها ومتذكِّرًا ما يختزنه التاريخ عن قبال الحجر.. وسرعان ما حطت بي عصا ترحالي الذهني وأعادتني إلى سفوح هذه المدينة الحالمة بواقعها المشاهد، فخلتها توقظ في كلّ زائر لواعج الشوق، ويحتسي كلّ قادم إليها قدرا كبيرا من السعادة.. أمضينا ثلاثة أيام نرتشف من إيقاعات (الخطوة) وبقايا اللعبة الحربية (المدقال) نسمع قصائد شجيّة يتبادلها بن جايز والسالمي، والبكريان حسّان وفائز.. نتراقص معها ولها وكأنّ رقصاتنا -التي يعتريها خلل الأداء- نقدّمها قربانا؛ لتطهّرنا من طول الصدود، وقلّة الورود للنماص (ملكة الجمال الجغرافي).. طاب مقامنا فأمضينا أيامنا بين تنومة والنماص.. نبدأها كلّ يوم بصباحها الأخّاذ الذي تربكه الشمس، حين توقظ أوجان النماص النائمة، وتنضح على جفنها الوسنان إشراقًا ينساب على جدائل سفوحها، ويتسلق -لواذا- ظفائر أوديتها.. نُجْنِبُ فنجد تنومة الوادي الوادع بين شموخ جبلي (منعا) و(عبدا ولميع) ومنتجع (نوربان) الذي يظهر للسائرين على طريق الساحل والساكنين في تهامة وبارق نجمةً مغروسة في السماء.. والأمير المعماري الفنان ناصر بن عبد الرحمن آل سعود يجالس الزائرين وكأنه أحدهم.. أضاف إلى كريم سجاياه عشق المكان.. ونُشْمِل آيبين للنماص -بمعيّة مرشدنا ظافر البكري، ورفقة الحربيين ناصر وبدر- فنجدها تفتح ذراعيها وتنادينا قائلة: أنتم عيدي فتصدّقوا علي ولو بشقّ نظرة.. لكننا لثمناها ثملين، وقبّلناها متلهفين.. وودّعناها ولسان حالها يقول: «كم قصّةٍ كنتُ أرويها لهمْ فمَضوا.. وصرتُ وحديَ أروي عنهمُ قِصَصا!» ولسان حال كلّ واحد منا يقول: ولما علمت بأنّ قلبي فارغٌ ممّن سواكِ.. ملأتُهُ بهواكِ وملأتُ كلي منكِ حتى لم أدعْ مني مكاناً خالياً لسواكِ وأخالنا ونحن نلوّح لها بالوداع نسينا قلوبنا على سفوح السروات حيث المعشوقة (النماص) وكفى بها أمينة!!! ولحديثي بقية!