من نافلة القول التأكيد على أنّ الضّبط الاصطلاحي لأيّ مصطلح شرعي أو قانوني، مرتكزٌ مهمٌ وضروري لتوصيف الحالات المعنية، بما يفضي إلى تكييفها التكييف الفقهي الشرعي السليم، وتحديد العقوبة المترتبة عليها استناداً للمرجعيات الشرعية، دون لبس أو غموض أو إشكال في التفسير، ما أمكن ذلك. ولهذا نجد أن مدوّنة الأحكام الشرعية في الفقه الإسلامي، كانت دقيقة في توصيف الأفعال الموجبة للعقوبات، من حيث الأطراف المقترفة لها، وطرق الاستدلال عليها والتثبت من وقوعها، والأحكام المقررة حيالها، وما إلى ذلك مما تقتضيه أصول العدل المرجو.. وفي ضوء ذلك، فلن يجد المطّلع على توصيف جريمة «التخبيب» عنتاً أو مشقة في ربطها بالسلوك الذكوري دون أن تتعداه لغيره، من كونها فعلاً آثماً يقدم عليه شخص ما، مفسداً حليلة غيره بالتغرير والإغراء ونحو ذلك، وغايته الزواج بها بعد الطلاق من زوجها والشّواهد على هذا الفهم مبسوطة وواضحة في الأحاديث النبوية مثل قوله عليه الصلاة والسلام (من خبب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا)، فتخبيب زوجة الغير بمعنى إفسادها وخداعها وتحسين الطلاق لها ليتزوجها هو أو يزوجها غيره. وهذا نص صريح لا يدخله أي احتمال دل على أن المخبب هو الرجل فالنص يفيد التخصيص والتعين وهو مناط الحكم الشرعي. بهذا المفهوم ينتفي ربط «التخبيب» بالنساء، على خلاف ما أوردته «عكاظ» 19897 بعنوان (4 نساء متورطات في «التخبيب».. وتغريم صديقة السوء 50 ألف ريال)؛ حيث تراحب مفهوم «التخبيب» في هذا الاستطلاع ليغدو رديفاً ل«الإفساد» وتخريب الحياة الزوجية، دون أن يكون العنصر الأهم في «التخبيب» حاضراً، والمتمثل في «الغاية»؛ وهي الاستحلال بالزواج بعد الطلاق، فكل الشواهد التي رويت في معرض الاستطلاع، تكاد تكون فعلاً «شبه عادي» في حياتنا اليوم، يقع من معظم أفراد العائلة والصديقات بشكل عفوي في سياق «طق الحنك» و«الوناسة العابرة، والفضفضة فكل أم ترغب في أن تكون حياة ابنتها مرفّهة وهانئة، ومهما كان الحال الذي هي عليه، فإنها ترغب لها في المزيد، ومن هذه الزاوية تأتي التعليقات الناعية عليها حالها المعيش، والمستشرفة لها وضعاً أفضل، في ظل رجل متخيل في شاشة حلمها المنفلت، وهو الحال نفسه الذي قد يحدث من الأخت والصديقة، وسائر من تربطهم علاقة بالزوجة، فيقولن لها مثلا ( ايش مصبرك عليه والا ايش اللي جابرك على العيشة معاه جاك سيد سيده كان زمانك اليوم عايشة في نعيم بدل عيشة الهم هذه يا ريت سمعت كلام ابوك وما رضيت به. انت لا زلت جميلة وما رحنا مناسبة الا وقالوا مين دي الحلوة ممكن تتزوجي احسن وافضل). وهنا يجب أن يؤخذ الأمر في سياقه، دون أن يكون ثمة حضور لمصطلح «التخبيب» بكل حمولته النكيرة، ومفضياته الآثمة.. فأقصى ما يمكن أن يوصف به مثل هذا السلوك الذي أشرنا إليه أنه «تنغيص» لحياة الزوجة، أو زعزعة لمستقر حياتها، على أي حال كانت هذه الحياة وقد أشارت الموسوعة الفقيهة إلى ألفاظ ذات صلة بالتخبيب مثل الإغراء والإفساد والتحريض الذي يكون في الخير والشر بخلاف التخبيب فإنه لا يكون إلا فى الشر. وإن كنت أرى أن إشاعة ثقافة التشنيع بمثل هذا المسلك، والتنوير بمخاطره من خلال وسائل الإعلام، وما في حكمها، مهم وضروري بأكثر من إيقاع العقوبات وتغليظ الجزاءات فالمرأة في الحالة التى وصفتها «عكاظ» لن تكون المستفيد المباشر من حالة الطلاق هذه لانتفاء غاية زواجها بالمطلقة ولا علة مشتركة بينهما ولا علاقة لها بالتخبيب ولا يمكن وصفه به. كما انجر عدد من المحامين وراء هذا الادعاء وكرروه في معرض تعليقاتهم على الموضوع وأصروا على وصفه بالتخبيب وهذا يبعدنا عن الفهم الفقهي للتخبيب وتصوره التصور الشرعي اللازم. فالإمام مالك صوّر التخبيب بأن يفسد الرجل زوجة رجل آخر بحيث يؤدي ذلك الإفساد إلى طلاقها منه ثم يتزوجها ذلك المفسد، ولا تخرج بقية المذاهب الأخرى عن نفس ومضمون هذا التصور. كما جاء في الموسوعة الفقهية فَمَنْ أَفْسَدَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَيْ أَغْرَاهَا بِطَلَبِ الطَّلاَقِ أَوِ التَّسَبُّبِ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقهاء بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَزَجْرِهِ، حَتَّى قَال الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُخَبَّبَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْسَادِ الزوجات. ولم يحدث على مر التاريخ أن قرأنا عن حادثة كانت المرأة فيها مخببة. صفوة القول؛ إن «التخبيب» ينطوي على السعي لإفساد حياة زوجية بالتفريق، يعقبه زواج بالمطلقة، من قِبل رجل ما، وهو حرام لحديث رسول الله لن يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان، والتخبيب معصية لا حد فيها ولا كفارة وإنما عقوبتها التعزير. وبخلاف ذلك يبقى أي تدخل في حياة متزوجين، بأي صورة من صور التدخل، حتى وإن أفضى ذلك إلى انحلال عقدة النكاح بالطلاق، فإنه يجب أن يكون له توصيف ومصطلح شرعي خاص به، بعيداً عن مصطلح «التخبيب».