تعددت الأقوال عن موقع «الأرض المقدسة» بين قائل إنها الشام أو أريحا أو القدس وبعض الأردن أو في الشام والعراق، أو إنها لا تخلو أن تكون ما بين فرات العراق إلى عريش مصر. تلك الاختلافات في تفسير «الأرض المباركة / المقدسة» أمر طبيعي كون القائلين لا يعتمدون على مصدر واحد مستقر، فهي أقوال أخذها السابق عن التوراتيين وأخذها اللاحق عن السابق، حتى اليوم. ولعل المفارقة أنهم لم يبحثوا في القرآن الكريم نفسه عن المقصود بالأرض المباركة، إلا ما أورده الطبري بصيغة «قال آخرون» من أن المقصود بالأرض المباركة هي مكة في قوله فقط: «ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها» بدليل قوله: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا». لكن لا الطبري ولا غيره أخذوا بهذا القول. إن القرآن الكريم بصفته وحياً من الله تعالى ونحن نؤمن به، إضافة إلى كونه نصاً مدوّناً سبق كتب التاريخ العربية، فيجب مساءلته هو أولاً عن المقصود بالأرض المباركة. فالأرض لله وهو من يبارك فيها حيث يشاء وهو، وحده، من يخبرنا أين بارك ولماذا. والقرآن الكريم لا يبخل بتلك المعلومة ويذكرها ناصعة لا لبس فيها في قوله «إِنَّ أَوَّلَ بَيت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدى لِّلعَٰلَمِينَ* فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰت مَّقَامُ إِبرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِن وَلِلَّهِ عَلَى 0لنَّاسِ حِجُّ 0لبَيتِ مَنِ 0ستَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاَ». تشير هذه الآية إلى التأكيد لمختلفين أو جاحدين أن أول بيت وضع للناس هو الذي في مكة. والبيت هنا هو جامع شمل الناس، أو جامع شمل العائلة ومرجعهم، كما نقول بيت عبد مناف أو بيت هاشم، وكما نقول اليوم بيت آل فيصل وبيت آل سلمان، وبيت آل سعود، فالبيت يطلق على مجمع العائلة الكبيرة مكاناً ومعنى، والبيت الذي ببكة بيت مبارك وهدى (اتجاه، قبلة) للعالمين. وتسوق الآية للمختلفين أو الجاحدين الذي توجهت لهم ثلاثة أدلة على ذلك، وهي أدلة يعرفونها ولا ينكرونها، فمكة هي مقام إبراهيم (مكان إقامته، بيت إبراهيم) وهم يعلمون ذلك، ومن دخلها كان آمنا، وهم يعلمون ذلك، كما أن الناس تحج إليها، وهم يعلمون ذلك. إن بركة (زيادة) هذا المكان ليست الأشجار والثمار وإنما هي ميزاته التي ليست لغيره، الحج إليه، جامع للناس، قانون الأمان الذي يسري في حدود الحرم في مكة. وتأتي البركة في اللغة بمعنى النماء والزيادة.. وهما تقريباً بمعنى واحد، لكن في الزيادة معنى آخر دقيق هو التمييز، أي أنها ليست زيادة كثرة كما هو النماء وإنما زيادة تمييز للشيء عن أمثاله. ونلاحظه، بوضوح، في القرآن الكريم، مثل قوله: «الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ» أي شجرة من جنس الشجر لكنها مميزة عنه بالصفات التي فيها. وفي قوله تعالى: «هَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي كتاب كالكتب الأولى لكنه متميز عنها، وقوله: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» فالليلة مثل بقية الليالي لكنها متميزة عنها بما حدث فيها، وقوله: «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» يريد منزلاً مميزاً أفضل من غيره، وقوله: «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا» فالأرض كغيرها من الكواكب ومن ذات العناصر لكنه تعالى ميزها عن أمثالها بأسباب تجعلها صالحة لحياة البشر، فالبركة في كل ذلك ليست النماء وإنما الزيادة والتميز والتفضيل أو الزيادة بالتميز والتفضيل عن الأمثال. ومن أراد أن يميز غرفة من غرف بيته كأن يخصصها للصلاة والقراءة ويحميها عما يقع في بقية الغرف فهو بذلك باركها. وكما بارك الله الأرض بذلك المعنى فهو قد أشار، بضمير الغائب، إلى أماكن بعينها في الأرض نعتها بأنها مباركة: «وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة»، وقوله: «وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ»، وقوله: «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا» وقوله: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا». فأين هي تلك الأماكن أو القرى أو الأرض المباركة؟! ربما غلب على ظن المفسرين والمؤرخين الأوائل أن البركة في الأرض تعني دائما الخير من أشجار وأنهار، واستقوا من أهل التوراة تفاسيرهم للأرض المباركة فقالوا عن «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا» الشام (ابن كثير عن الحسن البصري وقتادة) وقالوا عن «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرى ظَاهِرَةً» هي الشام وقالوا قرى بصنعاء، وقالوا بيت المقدس، أو قرى عربية بين المدينة والشام، وقالوا عن «ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها» هي الشام أو بعض الشام، لكثرة الأشجار والأنهار، أو فلسطين أو مصر (ابن كثير، القرطبي، الطبري، الشعراوي).. ويذكر الطبري «وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي مَكَّة وَهِيَ الْأَرْض الَّتِي قَالَ اللَّه تَعَالَى: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ويذكر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَوْله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْض الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي مَكَّة وَنُزُول إِسْمَاعِيل الْبَيْت، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُول: {إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَة مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}..» ويقول الشعراوي: «البركة قد تكون مادية أو معنوية، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات». لقد فطن الشعراوي إلى أن من البركة ما هو مادّي وما هو معنويّ، غير أنه يجعلها في الشام اتباعا لتفسيرات المتقدمين. وقالوا عن «وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ» أنها أرض الشام وفلسطين. وعن قوله: «المسجد الأقصى الذي باركنا حوله» يقولون هي الشام لأنها حول الأقصى أي قريبة منه، والبركة هي الزروع والثمار (ابن كثير). أو بيت المقدس لوجود بركة الزروع والثمار (الجلالين) أو المسجد الأقصى في فلسطين وما حوله من «الْبَرَكَة لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشهمْ وَأَمْوَاتهمْ وَحُرُوثَهُمْ وَغُرُوسَهُمْ» كما يقول الطبري. و«قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدساً» حسب القرطبي. وهي بركة دنيوية بالخصب والبساتين، وبركة دينية لأنها «مَهْد الرسالات ومَهْبط الأنبياء... وفيه هبط الوحي وتنزلتْ الملائكة». ويتردد ذكر هذا المكان بصيغ مختلفة في كثير من الآيات «وهذا البلد الأمين»، «رب اجعل هذا بلداً آمناً»، «آمنهم من خوف»، «جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ»، «نُودِيَ مِن شَٰطِىِٕ 0لوَادِ 0لأَيمَنِ فِي 0لبُقعَةِ 0لمُبَٰرَكَةِ». يجب هنا أن نذكر أن القرآن الكريم لم يذكر من أسفار وتنقلات إبراهيم غير خروجه من أرض قومه وهو «فتى يقال له إبراهيم» وانتقاله إلى مكة ثم بنائه البيت الحرام ورعايته وهو «شيخ كبير» حين بشره الله بإسحاق، وسكنه فيها هو وذريته. إن القرآن الكريم يعيدنا إلى مكان مبارك واحد بدل تلك التخمينات التي أكثر منها المفسرون. وبهذا فإن القرآن الكريم لا يقصد إلا مكة وحدها كلما أشار إلى الأرض المباركة بضمير الغائب «باركنا فيها» أو باسم الإشارة «هذا البلد الأمين» أو بالوصف «البقعة المباركة»، «الأرض المقدسة». وستظل مكة كذلك مهما اتسعت. وهذا يستدعي حتماً إعادة النظر في جغرافية تنقلات موسى عليه السلام التي وردت في القرآن الكريم. وهذا موضوع آخر.