هذه أعظم مراحل المواجهة السعودية مع الفساد، إنها خروج من الأحداث والمواقف باتجاه تأسيس واقع سعودي مختلف ونوعي للغاية. إن التعامل العابر مع ملفات الفساد والاقتصار على معالجة الحوادث يكون مجديا على مستوى اللحظة، لكنه لا يؤسس أرضيةً ومنطلقاً جديداً لمواجهة مستمرة وحاسمة مع الفساد. التجارب أثبتت أن الفساد لا يتوقف عند حدود الكسب غير المشروع عن طريق استغلال النفوذ أو المنصب، بل هو أبعد من ذلك؛ إنه تحويل لمسارات ومشاريع التنمية والبناء والمستقبل عن أهدافها وبالتالي فهو إضرار بالقيم الوطنية الكبرى وإضرار بالمواطنة والانتماء. يؤدي الفساد بطبيعته إلى خفض الجودة في كل المشاريع بما ينعكس سلباً على كل الخدمات وهو ما يسهم في تأزم العلاقة بين الناس وبين مختلف المؤسسات، والبلدان الغارقة بالفساد التي نشاهدها حولنا، باتت بلدانا متأخرة تنمويا للغاية، وتعيش أزمات متتالية ولا تستطيع أن تواجه أبسط التحديات وتعاني بنيتها التحتية وأنظمتها الحيوية هشاشة وضعفاً، وبالرغم من أنها بلدان ذات حضارة مبكرة إلا أن الفساد المهيمن أدى إلى تآكل في كل المؤسسات وتراجع في مختلف الخدمات وتأزم كبير بين الشارع والنظام. حين يكون الفساد في أجهزة ومؤسسات أمنية أو عسكرية يصبح خطره مضاعفا ومتجاوزا للجوانب المالية ولجوانب الكسب ليصبح خطرا قوميا واقعيا تجب مواجهته بكل قوة، إن وجود فساد في الأجهزة الأمنية يقتضي بالضرورة أن الأمن لا يمكن أن يستتب وأن مختلف الجوانب الأمنية تصبح عبارة عن مصادر للتكسب، وما كشفته التحقيقات من تورط الهارب سعد الجبري في ملفات فساد هائلة في وزارة الداخلية اتضح للجميع كيف أن ذلك الفساد المالي جاء على حساب الأمن الوطني، إذ تورط الجبري في دعم جماعات التشدد لأن استمرارها يعني استمرار مواجهتها، تلك المواجهة التي حددت لها الدولة ميزانيات ضخمة، كانت تمثل المورد الأول للنهب والاختلاس اللذين تورط بهما الجبري. لقد أسهم التشدد في إفساد الحياة العامة وتهديد السلم الاجتماعي ولو أنه استمر لكانت عواقبه وخيمة للغاية. قضية الجبري تكشف الجانب الأخطر في الفساد والفاسدين، وكيف أن الكسب المادي غير المشروع ليس أثرا واحدا ويسيرا من آثار الفسادأ بينما الآثار الكبرى تصل إلى أن تمثل خطرا على مستقبل الكيان وأمنه واستقراره. من هذا الوعي بخطورة الفساد وكيف أنه أحد أكبر الأخطار المهددة للأمن والاستقرار والتنمية والمواطنة والمساواة، من كل ذلك تنطلق القيادة اليوم في حربها الشرسة على الفساد، حرب لمواجهة الآثار الكارثية المدمرة التي لا تتوقف عند الجوانب المالية وجوانب الكسب غير المشروع. بدأ مشروع المواجهة الكبير بإعادة بناء أجهزة الرقابة ومكافحة الفساد، ومنحها الصلاحيات اللازمة للقيام بعملها، ولقد مثلت المواجهة الأولى مع الفساد إعلانا ضخما أن الحرب مع الفساد لن تكون عابرة ولا مؤقتة بل هي مرحلة جديدة ونمط جديد في بناء وحماية الدولة من الخطر الأعظم. هيئة الرقابة ومكافحة الفساد وفق التنظيم الأخير باتت جهازا يمتلك من الصلاحيات والدعم ما يمكنه من القيام بمهمته المحورية وفق أعلى المستويات، لقد باتت الهيئة خط دفاع قوي ونوعي ومؤثر في مواجهة الفساد، بل إن الهيئة خرجت من الموقف الوعظي واللغة القديمة غير المؤثرة إلى واقع جديد تثبته البيانات المستمرة والتواصل النوعي الجديد المختلف مع الإعلام والمجتمع. كاتب سعودي yahyaalameer@