عاد (أبو دخيل الله) من الوادي منقطعاً ظهره، بعدما طاف بكل المزارع، وقطع العقش، ورد الحجارة المتساقطة إلى الجُدر، ورصد وتتبع التحصيب، وتأكد من جاهزية الرُبع والجنبان للحرث. أخرج كيس الذرة من عُليّة التموين، وطلب من (أم دخيل الله) تنقّعها في طشت، لأن خريفهم هذا العام ما له بغرة، وتنقيع الحبوب يسرّع في إنباتها، خصوصاً أن الأمطار شحت والأرض غابرة وعين الله ناظرة، وطلب منها تقسم كيس الحب قسمين، وتصب عليه ماء يغطيه حتى يحقل بحول الله بمجرد بذره في الركيب. نزل إلى السفل وبمجرد مشاهدة الثور انقبض قلبه وردد (أبو دخيل الله بوه) اجتهد في تحريكه والثور جامد، صوّت عليه لينهض، مسح على ظهره، ضرب فخذه، شدّ الحبل المحاط برقبته والثور لا يتحرك من مكانه، قال بصوت مرتفع (قطع الله إيد اللاش). أغلق الباب وصعد للأعلى، لاحظت الزوجة تكدره وعرفت السبب، فقالت: سويت له فريقة مخلوطة بضرم أرب الله إن كان في بطنه بلاء يخرج. لم يعلّق على كلامها، وفتح الشباك المطل على الوادي ونظر للغيوم المتدافعة برياح الخريف صوب الشرق، وأرسل بصره إلى الوادي الشاحب وتبسم مردداً «شريت لي ثور حاسر، ما يمشي إلا بتلّه». اقترحت عليه الزوجة بأن يتصالح مع أبيها. وأكدت أن ثيران أبيها الوافية والساحلية تكمل حرث كل مزارعهم في نص نهار. سألها: من يقنع (المنفقع) يسرح يعمل لي، قالت؛ أنت افلح ترضّه واطلبه ووالله ما يردك، فقال: ودك أغدي أترضاه بعد ما حلف يمين فاجرة على حق عمتي، استولى عليه وجحدها الله لا يبيح منه والله لو ما أثبي شطي ما أرخص نفسي ولا أعقل له إصبعي الصغيرة. انسدح على ظهره، فوق جاعد صوف، ومد رجليه، وفرّج بين ساقيه، وطلب منها: تغمّز قدميه، لعل وعسى، تنقدح في الرأس فكرة يخرج بها من المشكلة التي أوقعه فيها ثوره. رفعت قدميه إلى حجرها وبدأت تضغط بأصابعها في باطن القدم، وهو يردد «إيوه إيوه العرقوب. الكعب.افغصي المشط، وغدا يوجهها: الأصابع الأصابع الساق الساق». غربت شمس نهاره ونار همه تتقد، بات ليلته مبات الزرى. لم تغمض له عين، الذرو في الماء وإذا ما بذره صباح الغد بيتنفخ ويفسد. قلّبها في رأسه يمين وشمال. يسأل نفسه؛ كيف الحل والحيلة، وهل يتنازل عن كبريائه ويطلب من والد زوجته يحرث له، أو يقصد قرى مجاورة ويلتمس فيها من يفزع له، قال في نفسه، لكن الناس كلهم حراثة ومثبية خريف، منين ألقى لي راعي عاملة يسدني في بلاد الشقا والعنا. طوّل في نومته، وما تحرك من سريره إلا عندما سمع الدجاج يقترب من طشت الذرة، انحنى والتقط حذاءه من تحت السرير ورجم بها الدجاج فتوزع في البيت فنهض مطارداً «دك دك الله يدك ضلعانك إن كان الثور متبتلاً حيله في السفل وأنتن تنطنطن يا الهملات، صِدْق، اللي ما فيه سرّه حاضر واللي لنا به حاجة حاسر». عادت أم دخيل الله وبشّرته بأن أباها وافق يحرث لهم بكرة. سألها؛ في ذمتك من صدقك؟ فأجابت: والله ما كذبت، وتراه وصاني أعجن وأكب له على خبزة وأسوي معرّق وأسرح له بالفطور ضحى بكرة، وأضافت: وأبي عند كلمته، والله ما يوجّدني ويخلف. صبّح عليه قبل طلوع الشمس ولقيه خارجاً من السفل بالثيران، واللومة والمصلبة فوق كتفه، وكتف ابنه البكر، فقال؛ الله يعطيك العافية يا عم، وابشر بالخبزة الدافية. ردّ عليه بنهره: الله يعافيك وخبزتك خلها لك. باسرح أحرث للعريفة. سأله: وذروي المليّن وش أعبا به؟ جاوبه: اطبخه والا أعلفه للحمار، سأله؛ ما وعدت بنتك أمسي أنك بتسرح تحرث لي. فقال: وعدتها لكن العريفة جاني في الليل وقال لي أنه واعد عمالة من ثلاث قرى وكلهم استعدوا يسرحون له، وش ودك يا الدبشة، أخلي العريفة واسرح معك؟! نظر إليه نظرة غضب، حدّثته نفسه يمد يده، فتعوذ من الشيطان، وعاد للبيت متنكداً، وتأخر عن الحرث ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع خرجت الزوجة وعادت بثيران أبيها، وطلبت منه يحمل أدوات الحرث على الحمار ويلحقها، انطلق بحماره بعدما مالت الشمس، وابنه خلفه بالذرو في قشبي. بدأ يحرث، ويرفع الصوت بالغناء «قال ابن خولان حقي صاحبي، ذا ما معه حق ما حد صاحبه»، شافه المؤذن من رأس البير، فقال: يا رجال من فاتته البغرة يتمرغ في غبارها، ردّ عليه؛ ودك تنقلع يا ديكان وإلا أمرغك في هذا التراب وأحشي زغدك منه حتى تشبع، فأخذها برأسه وأعطاه مقفاه. مرّت الأيام، وتحدثت القرية عن غلة أبي دخيل الله اللي ما مثلها في أودية القُرى، بينما لم تتوفق زراعة العريفة، والفقيه، والمؤذن. اعتلى الفقيه سطح المسجد المطل على بيت أبي دخيل الله، وقال: كيف تحقل بلادك كلها بالعذوق وأنت ما حرثت إلا بعد ما انتهت البغرة، فردّ عليه؛ يا فقيه ما تدري أن المتوكّل غلب الحَسّاب. كاتب سعودي Al_ARobai@