جاءت أنظمة هيئات الإعلام الحديثة - ليس محلياً فقط؛ بل عالمياً- متشابهة في المنطلقات والأهداف، لجهة إعطاء الهيئات مساحة أكبر للحراك والفاعلية والرشاقة؛ مقارنة مع الهياكل التقليدية، فالمؤسسات والوزارات؛ بعضها أقرب إلى الأبنية الضخمة، والهيئات بمثابة الشرفات (البلكونات) الأكثر إطلالة وتماساً وسرعة في التفاعل مع ما يجري في محيطها. لذلك أعطت رؤية 2030 قطاع الإعلام السعودي، دفعة كبيرة من المرونة، عبر إنشاء الهيئات الإعلامية بهدف تطوير المحتوى ودعم الاقتصاد الوطني، وتوليد الوظائف، وإتاحة خيارات واسعة من المحتوى المعلوماتي والترفيهي للجمهور، وهذه الركائز هي أيضاً مستهدفات هيئة الإعلام المرئي والمسموع. فعندما نستعرض التجربة البريطانية في النهوض بقطاع السمعبصري عبر (هيئة تنظيم البث الإعلامي البريطاني Ofcom) يبرز هدفها الرئيس؛ وهو تطوير المحتوى وتعزيز المنافسة في القطاع، وتنفيذ استجابة كاملة لمواكبة التسارع الكبير في تكنولوجيا الاتصال والبث، عبر رفع مستوى التنافسية وزيادة التنوع في صناعة الإعلام، وتنمية السلوكيات الاقتصادية لهذه الصناعات. إلا أن معيقات تنمية هذا القطاع بشكل عام، والتي تكبل هذه الأهداف الطموحة متشعبة ومتشابهة في المنطقة العربية، ومن خلال استعراض بعض التجارب الإقليمية خلال السنوات الماضية، نجدها تتمحور حول البيروقراطية والضعف التشريعي، وتعدد المرجعيات في العلاقة مع الاستثمار الإعلامي في هذا المجال، إضافة إلى معوقات ثقافية «متخيلة» دون إسناد نظامي، ما يعني ضرورة تجاوز هذه المصدات للعبور الإعلامي نحو المستهدفات الإعلامية. لذلك تبرز مهمتان رئيستان في صناعة الإعلام المرئي والمسموع هما: تعزيز مصالح الجمهور (المستهلكين)، وتوسيع مصالح (المستثمرين) في السوق الإعلامي، عبر تكريس المنافسة وفتح السوق، خاصة أن عنصر الزمن في هذه الصناعات مهم، فهي صناعات تتحرك بشكل أسرع من المشروع، بل إن الحراك السريع أصبح جزءاً من طبيعة هذه الصناعة، وهو أمر بالغ الأهمية، فلم يعد الأكبر يأكل الأصغر في هذا الاقتصاد بل الأسرع يأكل الأبطأ. ولا شك أن بناء قطاع إعلامي فاعل، يستدعي حزمة من المتطلبات، أبرزها توفير بيئة إيجابية للاستثمار والابتكار، وإنشاء روابط متينة مع الوزارات ذات العلاقة، مثل الثقافة والرياضة، وكذلك تعزيز الشراكات الإستراتيجية مع القطاع الخاص المحلي والعالمي، لجذب الاستثمارات، ومعالجة التحديات والتشوهات الموجودة في السوق بما في ذلك أزمة اقتصاديات بعض الصحف الورقية بالمملكة، وقيادة هذا الملف الشائك، وتعزيز عمليات الاندماج والاستحواذ في هذه الصناعة. ويظل التحدي الكبير؛ هو بناء قطاع إعلامي يتسم بالتنافسية والاستدامة والنهوض المتزامن بالمحتوى المحلي ودعم الاقتصاد الرقمي، وتطوير المنصات. فجمهور هذا القطاع (مستهلكين ومستثمرين وفاعلين) ينظرون بشغف كبير نحو زيادة حجم الإنتاج الوطني في السوق الإعلامي السعودي، وتوسيع الفرص الاستثمارية وتشجيع المزيد من المنشآت السعودية الصغيرة والمتوسطة على دخول قطاعات الإعلام الجديدة مثل السينما، وقطاع الترفيه المنزلي، بحيث يتم استقطاب مرخصين قادرين على تقديم خيارات ترفيهية أكبر، وفتح السوق لدعم الاقتصاد واستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تحقيقاً لرؤية 2030 بأبعادها الإعلامية والاقتصادية. أخيراً؛ يظل المعيار الرئيس في هذه المعادلة الإعلامية؛ هو مدى السرعة والقدرة، على تحويل قطاعات الإعلام إلى قطاعات منتجة، وتحفيز الاستثمار في حقل الإعلام، وتزويد القطاع بمقومات الجودة والتنافسية لخلق اقتصاديات إعلامية فاعلة تسهم باكتمال المنظومة الإعلامية الحديثة، فالبقاء في هذه الصناعة لم يعد للأقوى بل للأكثر استجابة للتغيير. أكاديمي وباحث في الشؤون الإستراتيجية alfirm@