سمّاها سرّا طريدتَهُ، ترحّلَ في طلبِها، قرأَ أثرَها في متونِ الجبال، شقَّ اللياليَ عن حروفِها، حتى حفِظَها غيبا، وبانَتْ وَسْما على ذراعِه. لم تَعُدْ غريبةً عليه، مُنفردا سبَقَ الجموعَ، قبلَ أن تزحفَ متدافعةً نحوَها. وحدَهُ تدرّبَ بإتقانٍ ونسَجَ شِباكَهُ برويّةٍ لسنواتٍ نَسِيَ عدَّها، مُذ دخلَ الكتاب واكتفَى به، بجلدٍ مفعَمٍ باليأس، لا ادّعاءَ من يتنبّأُ أو يرى. حكتْ له الكُتُبُ عن صبرِ الأنبياء والمنبوذين، ولم تُشْفِهِ من بينِها سوى غوايةِ آدم فتحي، رافَقَ تهكُّمَ قاسم حداد من فصاحةِ الأمل، سهرَ في رسائل عبدالله السفر، وحين لَقِيَ الوردةَ، وتوسّدَ النهرَ، سقاها حتى هدَتهُ الكشف. بهذا سبَقَ الشمس، عرَفَ الفراغَ والصمت، ودونَ عجلةٍ ميّزَ بينَهما وأزالَ ما علِقَ بهما من أوهام. علَّمَهُ الظلامُ همسا، ودرَّبَهُ على ترويضِ الخوفِ من قرنيه. أضحَى رهيفَ السمعِ، يرتِّبُ الخُطى، يحبِسُ النومَ على بابِه، ينتقي ما شاءَ من أحلامِه، ويميّزُ وقْعَها مقبلةً على الدَّرَج. لا يزعُمُ أُلفةَ الوَحدة، بل نَحَتَ الشِّعرَ عصا في يدِهِ، وبها أشارَ إلى الريح، دعَا من يهوَى، أنزلَهم قُربَه، رفعَ من نجا إلى مقامِ الوصل، بنَى له قُبّةً، وأثّثَها بالأسرار. العُزلةُ التي أفنَى شبابَهُ بحثا عنها انقلبَتْ على ظهرِها وأخذَتْ تتجوّل عاريةً في الشوارع. لا، ما الذي يجري أمامَه؟! هذه ليسَتْ الغَزالةَ التي كَمَنَ لها العُمرَ كلَّه، فراغٌ ممتلئٌ عن آخِرِهِ بالوحشة، اليأسُ عُنُقُه، الكآبةُ مخالبُه والفقدُ عينُهُ الكليلة، أينَها الغزالةُ، فسَدَ الهواءُ ولم يعد صالحا للسهم. وقعَ في الفخِّ، مُذ ابتكرَ الفكرةَ يومَ عنَّ القنصُ على بالِه. حين هجرَ ونأَى. في كلِّ خطوةٍ تنبِتُ الشواهدُ كما خالَها في صدرِه، ويدخُلُ في الضباب. شُيّدت المسالكُ من حولِه، بمجرّد أن تهجّى مقصدَه. كلُّ لحظةٍ تنقضي يضعُها خلفَهُ ويمضي إلى ما يَلِيها، بطمأنينةِ الزاهدِ في ما أتى. لا يقفِزُ عن المكانِ إلى أبعد مما تخيّلَه وإلا وقعَ في ظلامٍ ينحدرُ إلى رصيفِ الصباحِ التالي. خواءٌ كلُّ ما مضى خواءٌ كلُّ ما جاء خواءٌ كلُّ ما يأتي. الخيبةُ قرينةُ الوقت، والراهنُ علامةُ الزَّوال. وقعَ في فخٍّ نصبتْهُ يداه، عليه أن لا يَغمُضَ عينيه وإلّا تهدَّمَ كلُّ ما بناه. العمى ليس من العُزلةِ في شيء. ظنَّ أن ذلك عقدٌ بينَهما حتى وثبَتْ أمامَهُ الغزالة.. لمحَها على الحافّة وكلُّ ما تركَ وراءَهُ يتداعَى في هاويةٍ ويشُدُّ من ثوبِه. قُبيْلَ خروجِهِ التفتَ إليَّ قاصدا، فانهارَت من تحتِنا، الأرضُ.