} يستعيد الياس خوري في روايته الجديدة "يالو" دار الآداب أجواء الحرب اللبنانية ولكن من غير ان يدخل في وقائعها وتفاصيلها. فالرواية التي تحاذي سنوات الحرب سرعان ما تتخطاها لترسم فضاء من أحداث وشخصيات واقعية ومتخيلة. ولعلها المرة الأولى تتناول رواية لبنانية شخصية تنتمي إلى الأقلية السريانية يالو الذي حملت الرواية اسمه لتلقي ضوءاً ساطعاً على عالم هذه الأقلية وحقائقها. هنا قراءة في الرواية. لا بدّ من أن تكون مبدعاً لتجذب قارئك إلى براءة شقيّ دخل الحرب سارقاً ومغتصباً. أن تكون مفطوراً على الرّؤية الداخلية الكلّية القادرة على توحيد العناصر لترافقه في مشوار براءته. الرّؤية التي تشبه العين الثالثة التي نبتت ل"يالو" وهو في السجن فصار يرى الأشياء من زواياها المختلفة. هذه الرؤية، نقيض الرؤية المجتزأة، التي لو تيسّرت للآخرين، لما دخل "يالو" السجن وحوكم، لا بالتهم التي ارتكبها كالسرقة وغواية النساء أو اغتصاب "المحبوبة"، بل بتهم أفظع لم يرتكبها، إنّما وفي السياق العبثي للتذنيب والتبريء رأى المحقق أنّه من المناسب أن يلصقها به. لن يكون من الصعب عليك أن تتعاطف مع "يالو"، إذ أنّك قابلته في استراحة البراءة التي هجع إليها حين أحب شيرين. الاستراحة التي استعذبها من استُدرج إلى الحرب وحياة الشقاء، شأنه شأن آلاف الشبان الذين أغوتهم اللعبة وانساقوا وراء الوهم أو استهوتهم العنتريات واستعراض أدوات القوة. "يالو" كما يقول، صورة لآلاف غيره، لكن الجرم وقع عليه هو حين وقع في الحب. وكما استُدرج إلى الحرب عرف الطريق إلى عالم الجنس بصورة ملتوية. كان يقوم بعمله حارساً لفيلا ميشال سلّوم فصار يقع على المغامرين في حرج بلّونة - ضاحية بيروتالشرقية الذين يمارسون الحب في السيارات. وصار هو يمارس الفرجة. غابة الصنوبر بأسرها باتت في خلده مفعمة برائحة المرأة والبخور والجنس المسروق. وبما أنّ الطريق من الفرجة إلى الغواية معبّدة بالرّغبة خطر ل"يالو" أن يكون شريكاً. نعم لمَ لا يكون شريكاً في الغواية يقاسم هؤلاء المغامرين الحب ويقاسمهم المال؟ لن يجبرهم على شيء بل سيكتفي بالقول: اعطني ما معك. والواقع في الفخ يعطي ما تيسر وهو لا يطلب المزيد. أما شيرين فحين أعجبته وخطر له أن يكون هو رجلها وليس ذاك الطبيب الكهل الرّابض فوقها في السيارة، فهي، على ما يذكر، لم تمانع. لم تمانع بدليل أنّها مدّت ذراعيها وفاحت منهما رائحة البخور. تلك الرّائحة، في مناخ شامل من سوء التفاهم والتباس الدلالات، اقترنت في خياله بالقبول. وشعر بأنّ شيرين، في حركة ذراعيها خفيفة كأنّها تطير على جناح الرّغبة. فيما أكدت على أنّ ذلك كلّه كان دليلاً إلى الرّعب الذي لبسها لحظة هبط عليهما "يالو" ولاذ صديقها بالفرار. كلاهما في تفسيره كان على حق. لو لم تكن راغبة لما قبلت بعد ذلك أن تعاشره. ولو لم يكن مغتصباً وخطيراً لما استمرّ في عنتريات الكلام. كان ذلك هو السبب في أن تشكوه إلى المحقق بتهمة الاعتداء عليها! إذ لا بدّ لمن يقع في الشرك من وسيط يخلّصه. أما بالنسبة الى "يالو" فالعالم حافل بالوسطاء. والتعلّم في أساسه تقليد والحرب تذكي الوساطة. هكذا نشأ في دنيا تعجّ بهؤلاء. أوّلهم الوسيط مع الرب - جدّه - الكوهنو الذي يعيش حياة القديسين ويحاول إقناع حفيده بأن يحذو حذوه فيكفّ عن أكل اللحم الذي يجعل بطون البشر مقبرة. لكن "يالو" الذي كان، قبيل الحرب يافعاً يبحث عن حقيقة ذاته، لم يعثر فيها على هوى الكهنوت وقد عثر عليه بعد ذلك في السجن الذي وضعوه فيه ليعترف ب"الحقائق" في طريقة عجيبة، ألا وهي أن يكتب قصة حياته ويعترف فيها بكل شيء. انها القصة التي سيكتبها مرّات ومرّات وفي كلّ مرّة يزيد عليها وينقص لئلا يدفع به المحقق إلى حبل المشنقة. وإذ فقد "يالو" الوسيط الأوّل الأصلي الذي يمنح الأمان في مواجهة العالم، فسافر أبوه ولم يرجع حتى التبس الأمر على الابن فبات غير أكيد إن كان هو ابن أبيه أم ابن الخيّاط معلّم أمّه، ويحسم الجد الأمر فيسجله حين يولد باسمه. هكذا تصبح أمه أخته وجده أباه وهو نفسه "يالو" ينادي امه/ اخته باسمها غابي. يذهبون هم الثلاثة كلّ عام ليلة عيد الغطاس إلى البحر ليشاهدوا الأعجوبة التي تتكرّر: تقف غابي بين يدي والدها الكوهنو وتنزع دبابيس شعرها فينزل على الأرض حيث تقف، وتأمر طفلها بالجلوس قربها على الغطاء. يأتي الكوهنو بماء البحر يرش رذاذاً منه على شعر ابنته ثم يبدأ بتمشيطها تمشيطاً أشبه بالتعميد. كأنّما لتبقى هي المرأة العذراء إلى الأبد وهو يوسف الأب وابنهما، المجهول الوالد، "يالو". يجري هذا ليلة معمودية المسيح. وتحدث الاعجوبة: يتلوّن شعر الأم الشابة بالذهب ويلمع تحت أضواء النجوم. وبعد انتهاء الطقس المعمودي تلمّ الأم الشابة شعرها وتلفّه بالدّبابيس ولا تفرده لرجل أبداً ألاّ بعد أن يهجرها زوجها وتستسلم لحب معلّمها الخياط. فقدان الوسيط الأوّل يخلي الساحة لوسطاء كثيرين في حياة هذا الفتى الذي كبُر قبل الأوان، ليضحي طوله قرابة مترين من هيكل آدمي يعوزه النضج والتوحد. يهوى التنزّه على الشاطىء والخروج إلى الحرج "ليصطاد" غنائمه، المرأة والمال. أما عدّته فأشياء "فيتشية" تغوي معذّبي الرّوح أمثال "يالو". أدواته: معطف سميك يحمي عظام الجسد من البرد في الشتاء ومن الخواء الرّوحي في كل الفصول. هذا الخواء الذي ازداد سعيره حين استدرجه معلّمه في القتال، طوني إلى باريس بعد أن سرقا خزينة الثكنة التي ينتميان إليها. المعلّم غدر بتلميذه وتركه وحيداً بلا لغة ولا مال... صاحبة الفندق أشفقت عليه فسمحت له أن يبيت ليلتين مجاناً ويتناول فطور الصباح قبل أن يلجأ إلى المترو كاتباً جنسيته اللبنانية على عريضة من كارتون. ويشاهده رجل الأعمال ميشال سلّوم ويعيده إلى لبنان حارساً للفيللا. طفل شقي كبر قبل أن ينضج. يعظّم أشياءه الصغيرة ليخلق لنفسه العالم الملائم البديل. معطفه الأسود المهيب يخرج به إلى الحرج. ينقض به كالصقر على "ضحيته"، وإذ يرى ضحيته يتريّث. حينذاك ينتفخ المعطف والكُمّان يكبران. يرفع "يالو" يديه اللتين صارتا مثل جناحين ويحلّق ببطنه المنفوخ، حاملاً بندقيته على كتفه اليمنى تاركاً رأسه متدلّياً باتجاه الأرض. يشعل بطاريته السوداء ويهبط.. البطارية التي، هي أيضاً من عماد أدواته، ذات أثر عظيم. يحتاج اليها "يالو" ليبصر، إذ يختلف النظر عن البصر. والبطارية تعوّض عن كلّ الظلام الذي يعمّ الدنيا حوله وتعوّض عن الظلمة الداخلية التي غرق فيها بعدما ابتعد من نفسه ودخل الحرب. ابتعد كثيراً من مشواره الأصلي. كان يريد أن يصبح خطاطاً يخط الحروف العربية. هكذا قال لجدّه الكوهنو السرياني. وجدّه لم يستغرب الحلم بل نصحه نصيحة أب لابنه أن يترفّع عن شؤون الدّنيا. ولما لم يمتثل أرسله إلى مشغل الآرابيسك حيث تعلّم فنّ تعشيق الخشب. ووقع في هوى المهنة وأراد أن يصبح فناناً شرقياً، يعشّق خشب المقاعد ليستريح إليها كيان ابن آدم ويخط عليها الحروف. وقع في هوى التعشيق، لكن الحلم لم يتحقق إذ وقعت الحرب. الخطة الأصلية راحت مثلما راح الوطن في ترّهات القتال و"هاجر" يالو وأهله في ترّهات الفرز الطائفي من المصيطبة إلى عين الرّمانة، بعد أن وقعت القذيفة واجتاحت صديقة طفولته نجوى وبقي هو حيّا ونبتت له عين ثالثة في رأسه جعلته يرى ما لا يراه الآخرون. عاش هو وعائلته في عين الرّمانة مثل غرباء قبل أن يهتدي إليه وسيط الحرب ويضمّه مع مئات غيره من الشبّان إلى فرقة "التيوس". يدخل "يالو" الحرب ليدخل الوحدة والغربة وعالماً منقطعاً فاقداً الأمان والثقة ومشوّش الدّلالات. في هذا التشوّش كلٌّ يفسّر الإشارات على هواه. أن يأخذ "يالو" الحنين فيحمل بطاريته إلى الشاطى ويجعلها مرآة عاكسة تعيد له مشهد الخروج الأوّل مع أمّه وجدّه... فهذا ما يبدو في نظر المحقق أشبه بإشارات التجسس... وأن يضع "يالو" في المطعم مسدّسه على الصحن معلناً استسلامه لحب شيرين..ففي هذا تهديد لها وللآخرين. أما أن يحكي لها عن عنترياته ويسهب لتحبّه أكثر وترضى أن تتزوّجه ففي هذا الطامة الكبرى التي ذعرت منها شيرين ولجأت إلى وساطي الخطيب والمحقق ليخلصاها من براثن الحب الذي وقعت فيه. كلّها إشارات، على رغم أصالتها، تغدو قرائن إدانة ضدّه، مثلما لو قال إنّ اسمه الحقيقي غير اسمه المسجّل. فهو يالو جعلو وليس دانيال هابيل أبيض ابن الكوهنو... وهو على الأرجح من أصل سرياني سوري. لكن هل سيكون في وسعه أن يقول ذلك؟ لا. لذا يمزّق الأوراق التي كتبها ويكتب أوراقاً غيرها تُغيّب الحقائق لئلا يُتّهم بالتزوير وتُنزع عنه الجنسية ويرجع إلى مترو باريس... كلّها اعترافات إدانة كان هو في غنى عنها لولا أنّه وقع في الحب الحقيقي. إن كنت شقيّاً فلا يحق لك أن تتراجع عن شقائك. والاعتراف المتأخر بالحقائق طريقك إلى الجحيم. لكنّ "يالو" لا ييأس إذ أنّه وفي سجنه يكتشف حرّيته، ويكتشف الروحانيات داخله. وتمثلاً بجدّه الكوهنو، يقرّر أن المحامي الحقيقي هو المحامي الأكبر. ويرفض تعيين المحقق له مَن يدافع عنه. مناخ يسوده الانقطاع وسوء التفاهم. صورة لما يجري في العالم. كلّهم أبرياء أشقياء دخلوا في الدوّامة. "يالو" الذي خان معلّمه ميشال سلّوم واستسلم لغواية زوجته رندة البورجوازية صاحبة الفيللا التي شغفت بفكرة تعشيق الخشب. كيف تتداخل القطع الصغيرة ببعضها الآخر بلا مسامير؟ هكذا أنثى وذكر أنثى وذكر.. يشرح لها "يالو". ورندة صارحت "يالو" في ما بعد أنّها تريد أن تتعشق به كما الخشب بالخشب إلى الأبد... غير أنها وبمرور الوقت ملّت اللعبة. كانت تبحث عن نفسها وتجد راحتها في الخيانة. ولما صار "يالو" من مقتنيات المنزل اضمحل طعم الخيانة وبقيت اللعبة مرارة في الفم، حتى أنّها صارت لا تنام معه بل تنام به. ففي هذا العالم الكثيف المعقّد لا وجود لمجرمين وأبرياء في حال خالصة. وجميع هؤلاء تؤرّقهم الذنوب وتدينهم البراءة التي ما عاد لها لزوم فيما المناخ مشبع بالخوف في هذا الزمن الموحش الخالي من التواصل. وشيرين التي قادت حبيبها إلى السجن، إنما فعلت لأنّ صوتها انكسر. انكسر لحظة هرب الطبيب الذي كانت معه في حرج بلّونة وتركها تواجه وحدها هذا الشبح الطويل الذي أحبّته في ما بعد. لن يكون من الصعب عليك أن تكتب عن "يالو". رواية تغريك بقراءتها كما تغريك بالكتابة عنها على رغم سرديتها الكثيفة وأصواتها الكثيرة المتنوّعة المتداخلة. تقرأ الرّواية كما لو كنت تشاهد فيلماً سينمائياً يعتمد في صورة أساسية الفلاش باك ويترك لك مهمة الإنجاز وتجميع العناصر. ترى المشاهد عبر عين "يالو" التي، تجعلها طفوليتها، مثل كاميرا تسترجع لوحات من الذاكرة البعيدة. قد يزوغ بصرك لقوّة الضوء أو تلهث وراء مشهد يتوارى في كواليس العتمة. عينك هي أيضاً تلاحق المشاهد وليس فقط لسانك. مثل المشهد الأوّل الذي يفتتح الرّواية في غرفة التحقيق وقد دخل "يالو" إليها ليزوغ بصره بالبياض. كلّ شيء أبيض والشمس تنكسر على النافذة ووجهه يغرق في الضوء العاكس وفي الحقيقة العاكسة. الحقيقة أنّ شيرين هي التي أقامت دعوى ضدّه وأدخلته السجن. تأسرك هذه المشاهد الفيلّلينية حتى تتساءل كيف تخطر للكاتب؟ تخطر له من ذاكرة الطفل "يالو" ثم تبدأ تتكاثر تكاثرَ صورةٍ في مرايا متقابلة: هناك في المشهد البحري المُستعاد تقف عشرات النساء على الرّمال البيض، يفرشن شعورهنّ ملء ظهورهنّ. وخلف كلّ امرأة يقف رجل كهل يحمل مشطاً. ومع كلّ ضربة مشط تتلوّن خصل الشعر بالذّهب. لا يعزلك الياس الخوري عما يجري بل يشاركك القص. لا يخبرك كلّ شيء ولا يخبرك الأشياء دفعة واحدة، بل يتركك تستنتج ما تريد أنت استنتاجه. جلّ ما يفعله أنّه يقودك إلى كواليس حياة "يالو" والآخرين. لا يدع الياس "يالو" يقول عن نفسه انّه مستغَلّ ومستلَب، وأنّ السيدة رندة تأمره ليبدأ وتأمره لينتهي وأنّه بعد هذا يحتاج إلى أن يعبّ قنينة ويلتهم بيضات عدة. سعرات حرارية تعوّض استنفاد الرّوح والجسد. يبدو سرد الرّواية أشبه بغزل العناكب. يبدأ في نقطة صغيرة هي لحظة دخول "يالو" إلى غرفة التحقيق وزوغان بصره، وينتهي في المكان ذاته تقريباً: في سجن غارق في العتمة. وبين البداية والنهاية تدور الخيوط وتُفرد الشباك وتتسع الدوائر لتصبح دائرة لا متناهية من التفاصيل والحكايات القصيرة والطويلة التي تشكل، مجتمعة عالم "يالو"، وتشكّل استمرار هذا العالم في خيالك. في هذه الدائرة، لا تتوالى الحكايات بحسب خطها الزمني، بل وفق منطقها الدرامي السردي، الذي يتقاسمه "يالو" مع الياس، و"يالو" مع "يالو" نفسه عبر تكرار الحكايات. تأتي إليك الأحداث والشخصيات وتغادرك على غفلة منك ثم تعود إليك أكثر غنى واكتمالاً... تكتمل بغيرها وبك. تقنية سردية يصعب اكتسابها إذ تقتضي المعايشة، معايشة الشخصية ومعايشة ظروفها العجيبة، معايشة داخلية وأخرى خارجية تتقاطع فيها رؤية "يالو" برؤية الآخرين قبل أن تتشكلّ الرؤية الكلّية للكاتب الياس الخوري. يحدث هذا بطريقة تلقائية نابعة من الحدث، بعد أن يطلب المحقق من "يالو" أن يكتب قصة حياته. لعبة تَداخل عبر التخاطر، حتى أنك تتساءل إذا كان الياس هو الذي يكتب أم أنه "يالو" هو الذي يفعل. يقول كلاماً هو أقرب إلى حوار مع أعماق ذاته الباحثة عن الحقيقة منه إلى كلام مرسل الى الآخرين. يتكلّم كما غيره العامية والفصحى معاً. كلام شاعري بليغ يأتيك على لسانه هو النصف متعلّم والنصف أمي، حتى لتعجب كيف يمكن العامية أن ترقى إلى مقام الفلسفة. "يالو" يتعلّم الكتابة أثناء الكتابة، في السجن الذي اكتشف فيه حرّيته. وكلّما غاص في اعترافاته غاص في أعماق ذاته مقترباً من جدّه الكهنو. يكتب قصته أكثر من مرّة. وفي كل مرّة يضيف أشياء أصيلة في اتجاه الحقيقة أو يضيف تهماً إرضاءً للمحقق وهرباً من حبل المشنقة. لا يكتب الياس الخوري في "يالو" عن أبطاله. يقدّمهم في مطلع السرد ثم وبعد ذلك يبتعد، ليدوّن على لسانهم ما يريدون قوله. جلّ ما يفعله الياس هو توحيد العناصر في مواجهة الرّؤية المجتزَأة التي تختفي فيها الشخصيات. الرّؤية المجتزأة التي ترفض قبول الآخر في تناقضاته وترفض توحيده في كيانه الكلّي. الاجتزاء الذي يودي إلى التفرقة والفراق. هذا ما يتصدّى له الياس الخوري وتختبئ وراءه الشخصيات. فيما عدا ذلك يترك الياس الشخصيات يكتبون عن أنفسهم في صفحات بيض يفردها أمامهم: الكوهنو وغابي والخياط وشيرين ورندة ويالو. وإذا كان من ضرورات الابداع أن يخلي الكاتب مكانه للشخصيات، وأن يتوارى ويبقى بطله، فيمكن الجزم بأنّه في نهاية الرواية يتوارى الياس الخوري ويبقى يالو... ولكن يعوزه النضج.