في داخلي مواقف كثيرة بعضها غير محايد لست ضد التسويق لكني ضد تسليع المعنى تجرعنا مرارة القطيعة من الجيل الجديد أعكف هذه الأيام على قراءة القرآن بعض المثقفين تبنى الأدوات الشعبوية كي لا ينطفئ وسائل التواصل تحولت إلى منصات قبلية وطائفية بقدر ما فتحت الحداثة مصراعيها مرحبة بالشاعر الكاتب محمد زايد الألمعي، بقدر ما استشعر المتزمتون خطر حضور مثقف يجيد قراءة المشهد ويستشرف الأحداث وينحت مصطلحات فكرية وفلسفية ويمررها في شعره ونثره بكل جسارة ودون عدائية. ومع ما يعتمل في صدر الألمعي من تطلعات وأفكار وضاءة إلا أنه حافظ على صفاء منهجه وحصّن سلامه النفسي بخلق الصداقات ومد جسور العلاقات الإنسانية موازناً بين ما يعرفه من قدرات نفسه وبين ما تتطلب الحياة من عفوية ومهادنة. وبحكم ظروف (أبو عبدالخالق) الصحية ومراعاة لفارق توقيت الإفطار بين القاهرة والباحة لم أثقل عليه بمزيد من الأسئلة، مع يقيني أنه معين أفكار ورؤى نقدية رصينة مكتفياً بما أشرككم فيه من حوار هذا نصه: • كيف ترى ارتباط مثقفي اليوم بجيلكم؟ •• دعني أصارحك بأن الحداثة لم تراكم التجارب بالبناء الروحي والمعرفي على ما سبق، مارسنا القطيعة مع الجيل السابق لنا، وها هو الجيل المعاصر يمارس معنا ذات القطيعة، ويجرعنا مرارة كأس القطيعة، غفلنا عن أن الذاكرة التاريخية هُوية ينبغي ألا تنفصم عراها. المنجز الحقيقي يقوم على اتصال أجيال وتجارب ومراحل، وتبقى القطيعة مخيفة. نظرنا للجيل السابق على أنه لم ينجز شيئاً وهو حكم تعسفي، مع الأسف ارتباط الحقب الثقافية في بلادنا ليس بذات المستوى في بلدان أخرى تربط واقعها بآلاف الأعوام التي مضت ويستحضرون أسلافهم ورموزهم بينما ندفنهم أحياء، ومن يتنكر سيتجرع ذات الكأس فكما تدين تدان وما تزرع اليوم تجنيه غداً. •ما الذي يزعجك وأنت تراقب المشهد الثقافي؟ •• الفهم المغلوط للثقافة والاندفاع مع السائل على حساب الصلب. أستوعب حرص رأس المال على تسويق نفسه وزيادة مكاسبه لكني ضد تغوله على حساب القيم الأصيلة، فالثقافة ليست علامة تجارية بل قيمة معرفية. لست ضد التسويق بل ضد تسليع المعنى ومحو النوع بالكم، ومما يؤسف له أن نوظف شعبية شخصية عادية بوعي سطحي في برنامج يشاهده ملايين البشر لأن الراصد يحكم على الوعي والمجتمع من خلال ما يشاهد، وحمل هموم راية الثقافة مرهق جداً. • هل لديك ملاحظات على اتساع أطر الثقافة بحكم الانفتاح اللامحدود؟ •• للثقافة مرجعيات يمكن الاستعانة بها ومنها اليونسكو. هناك فنون تطبيقية صلبة يمكن تدريسها في جامعات وهناك فنون متخصصة يمكن لمعاهد وكليات السياحة والفندقة أن تتبناها، وهناك هيئات عامة معنية بدورها في رعاية وتسويق المنتج ووضع السياسات والتشريعات اللازمة. • ألا تظن أن الصحوة خنقت الفنون ودمرت بنيتها؟ •• خنقتها صحيح لكنها لم تمت، ففي بلادنا معاهد لتدريس التربية الفنية، والفنون الجميلة. ربما تكون قد توقفت، ولكن في الماضي كانت لدينا فرقة موسيقى الإذاعة، والجيش والشرطة وينبغي أن نحيي ونطور، ولم يعد خافياً أن للقرار السياسي دوراً في حسم موضوع الصحوة وكبح جماحها لأنها استظلت بظله واستقوت بقوته في حقب مضت. • على ماذا تراهن؟ •• رهاني على جيل جديد شرط أن يعتني بثقافته ليكون له موقف، جيلنا لم يكن عصياً عليه التمييز بين المسارات والاستقطابات وكان من السهولة بمكان أن تأخذ موقفاً ثقافياً ومعرفياً وتعبّر عنه وتنحاز له. نحتاج أن نرى أجيالاً تتمتع بالشخصية الوطنية المتزنة وتعلي شأن الثقافة في وجه الصخب المتزايد في منصات التواصل. • ماذا عن الاستسلام للشعبوية؟ •• هذه إشكالية يقع فيها حتى المثقف المكرّس بحكم أنه يرى أسماء ليس لها ذات الرصيد من التراكم الفكري والثقافي وتتمتع بذات الحقوق فيبحث عن وسائل شعبوية ويتخلى عن التزامات الوعي ويتبنى الأدوات الشعبوية لكي لا ينطفئ تحت وهج المشاهير الجدد. • أليست التقنية سبباً في ما حدث؟ •• بالطبع اللغة التي يمكن أن تحافظ على الثقافة الصلبة صدمها الفضاء الجديد واكتشفت أميتها فغدت تجاري المشهد وتذيب وتفكك لغتها في سبيل الحضور ولو من خلال إعادة استئناف الأمية وإنتاجها. هناك غفلة عن الوعي بالمنتجات الليبرالية واقتنائها من مجموعات غير ليبرالية وغير متسامحة ولا تؤمن بالمدنية، ما أحال وسائل التواصل إلى منصات قبلية وعشائرية وطائفية وظفت قدرات عصر ما قبل الدولة لتقديم نفسها بمنتج تقليدي في وعاء حداثي. وسوقت تقاليد وعادات غير منسجمة مع المعطى والفضاء الكوني ولك أن تلاحظ الكم من باعة الشعوذة ومفسري الأحلام وباعثي الكراهية، وكل هذا تشويه لمنجز العلم بعواطف وسلوك لا تحترم المنجز ولا العلم، إضافة إلى الجهل بالثقافة القانونية. هذه الفضاءات محكومة بتشريعات وقوانين دولية وهناك من يعتبرها موجة من السهل ركوبها بكامل الطمأنينة. • كيف يمكن تلافي التجاوزات والاختراقات؟ •• البنية المؤسسية للمجتمع المدني معول عليها في تأهيل الوعي للتفاعل مع معطيات العصر بحضارية واستقلالية وتحصين المكونات الاجتماعية والثقافية تحت مظلة مدنية حامية من أي تجاوز. • ما انطباعك الثقافي عن كورونا؟ •• وحّد الفايروس مصيرنا، وألغى فردانيتنا، ولو افترضنا أن كورونا داهمنا في زمن الاستقطابات قبل 60 عاماً مثلاً ستقع كوارث كبرى، وسيردد البعض مصطلح (كلام كفار وما علينا خلاف). كورونا يقدم دروساً في التناغم الهارموني وهو يعزف سمفونية غامضة يستجيب لها الكون ويصغي ويحترم أدبيات التعامل معها ويقدس النظافة ويؤمن بشروط الوقاية ويتجه للعمل عن بعد، ويقلل من استعمال الطاقة ويحد من النشاط الاستهلاكي، وأتعجب من قدرة فايروس على تحويل الإنسان إلى كائن مطيع يتحمل مسؤولية كوكب الأرض مع مليارات البشر دون تمييز. • هل تقتفي خطى الراحل عابد خازندار بدراسة اللغة الفرنسية وأنت على مشارف الستين؟ •• أنا مجموعة مشاريع ومسارات منها ما توقف ومنها المستمر، ولم أشعر أني اكتفيت من المعرفة والبحث والدراسة ومنذ 40 عاماً والحلم يراودني أن أدرس لأقرأ بلغة ثالثة، وكانت الوظيفة قيداً فلما تحررت منه انطلقت. وتستطيع القول «انتهت تجربتي مع الناس وبدأت تجربتي مع نفسي». • لكنك تميل إلى الصمت حالياً ولم تعد تطرح أفكاراً وقضايا مثل ما كنت قبل التقاعد؟ •• الاستقلالية مكلفة، ومراحل العمر والتحولات تفرض عليك أحياناً الصمت للتأمل وهو ليس صمتاً سلبياً، وكان البعض يحاول إدانتي بكلامي فأرجو ألا أُدان بالصمت. • ماذا تقرأ في شهر رمضان؟ •• حالياً أعكف على قراءة القرآن،استفدت كثيراً من العزلة في الوقوف عند إشارات النص المقدس والبحث الأنثربولوجي وتاريخ الأساطير، وهناك قراءة للتسلية والتسلية أيضاً مفيدة. • في ظل اختصار وإيجاز التقنية هل سينتهي زمن المطولات؟ •• لا أتصور فهناك قطاع كامل في عقل الإنسان مسؤول عن نواة صلبة معنية بالعمل على الامتداد الإنساني، ما نحن فيه اليوم من معطيات هو نتاج كتابة. وعصر الكتابة أزهى العصور لتوثيق التجارب والخيال الذي تمثلناه وعشناه واقعاً، وكل المنجزات للكتابة فضل فيها. والتقنية تقود لباب خلفي للقراءة لكنها ستتحول إلى منصات خدمية لأنها ليست معرفية، إذ نمرر فقط عبرها ما نحتاج من خدمات وسلع. ونحن ننتمي لمجتمعات حديثة عهد بالكتابة واليوم عدد القراء أكثر من أزمنة مضت بحكم أن الشعوب آمنت بأهمية الكتابة. • متى يحين موعد توقيع سيرتك الذاتية؟ •• المادة الخام متوفرة، ولكني بصدد ترقب نضج الفكرة، أختزن في داخلي مواقف كثيرة بعضها غير محايد، والسيرة الذاتية تحتاج محايدة ورضا، ولا أريد كتابة لمجرد تفريغ شحنات ولا تصفية حسابات فالكتابة بغرض التشفي لا تنسجم مع أخلاقي ومبادئي.