من الطبيعي أن يمر أي مجتمع بأزمة أو بمجموعة من الأزمات التي قد تمثل فترة عصيبة في تاريخه، بعضها لا يكون بسبب تدخل العنصر البشري، بل قد تكون أزمات وبائية قاتلة، وعلى الرغم من التقدم المذهل الذي حققه العالم في مختلف المجالات العلمية إلا أن العقل البشري يظل محدوداً وعاجزاً أمام بعض الأزمات، وتعتبر الفترة الحالية التي تمر بها الدول بسبب تفشي مرض كورونا المستجد أزمة عالمية، أثرت على الجميع، ليس فقط في ما يتعلق بالمجال الصحي، بل اتضحت نتائجها الكارثية في القطاع الاقتصادي أيضاً، ومن المؤكد أن ما نمر به حالياً لا يمثل التجربة الأولى في التاريخ، بل سبقتها العديد من الأوبئة والأزمات العالمية، ولعل أشهرها الإنفلونزا الإسبانية التي عصفت بالعالم في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى. لاشك أنه ليس عيباً أو غريباً أن تصاب الأمم بالكوارث، غير أن ما يهم هو أن نتمكن من استلهام الدروس من تلك الأزمات، ليس لمجرد منع تلافي حدوثها في المستقبل، بل باعتبارها فرصة لتقييم الأوضاع ودراسة الواقع وتحليل الظواهر والوقوف على نواحي الضعف أو القصور، ليس فقط على الصعيدين الأمني والصحي، بل على الصعيد الاقتصادي الذي يمس المواطن بشكل مباشر، ومن الملاحظ تاريخياً أن الكثير من المجتمعات تقوم بإعادة تشكيل بنيتها الاقتصادية والصناعية خلال فترة الأزمات لتتمكن من التلاؤم مع الظروف المستجدة، بحيث تتم إعادة تصميم عوامل وأدوات الإنتاج للتكيف مع الأوضاع الجديدة، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين تحولت دول المحور المنهزمة (ألمانيا واليابان وإيطاليا) لأقطاب صناعية كبري، وتمكنت من تحويل الهزيمة الثقيلة إلى تنمية صناعية واقتصادية. وعلى الرغم من أن العديد من الحروب والكوارث قد طالت منطقتنا العربية -من شرقها إلى غربها- إلا أنها لم تشهد أي نهضة اقتصادية قوية، ولا سيما على الصعيد الصناعي، وظلت في خانة المستهلك بدلاً من أن يتحول اقتصادها نحو الإنتاج الفعلي، وهو ما حتم عليها أن تظل تحت رحمة الدول الصناعية الكبرى وأسيرة لنفوذهم، وهو ما ترتب عليها –تباعاً- قبولها لسياستهم التي غالباً ما تكون مشروطة ومنحازة أيضاً، غير أن الأمور تبدلت خلال الآونة الأخيرة، وأنا لا أزال أتذكر حديث الأمير الشاب محمد بن سلمان عندما صرح بأنه من الخطأ الجسيم أن يظل اقتصاد المملكة معتمداً بصورة كلية على النفط، وأن علينا أن نتوجه إلى تنويع مصادر الدخل لنبني اقتصادنا الوطني بسواعدنا، وقد ترجم الأمير تصريحاته لسياسات استراتيجية تعتمد على مبدأ توطين الصناعات وخاصة العسكرية منها. لقد انطلقت من هذه الرؤية العديد من المبادرات الاستراتيجية، ولعل أهم هذه المبادرات مؤخراً كانت نتاج أزمة كورونا، والتي دعت لها الهيئة السعودية للمهندسين من أجل تصنيع أجهزة التنفس الصناعية، والتي نأمل أن يكتب لها النجاح لتكون بمثابة انطلاقة للمجتمع الصناعي السعودي تؤذن بتحويله لمجتمع صناعي تقني، وقد تكون خطوة مبدئية للبدء في تصنيع صناعات تقنية أوسع مدى في المجال الطبي، تنافس كبرى الصناعات العملاقة في هذا المجال، فالتقنيات الصناعية الطبية لا تقتصر فقط على أجهزة التنفس الاصطناعي، كما نتمنى أن تتسع المبادرات لتشمل صناعات أخرى تحدثتُ عنها في مقالات سابقة، كصناعة السيارات وأجزائها. لاشك أن وجود العديد من الصناعات الوطنية في المملكة (كالصناعات الغذائية) ساهم في تخفيف حدة أزمة كورونا الحالية، لكنه في نفس الوقت أظهر اعتمادنا على استيراد بعض السلع الأخرى الضرورية، وقد سبق -في مقالات سابقة- أن أوضحت العديد من مثالب الاستيراد، ليس فقط لأنه يجعلنا رهينة لما تمليه علينا الأسواق العالمية وثقافتها الإنتاجية والتقنية، ولكن لأنه يسهم -بشكل غير مباشر- في رفع نسب البطالة في مجتمعنا، في الوقت الذي يسهم فيه هذا النهج على حل مشكلة البطالة في الدول الموردة لهذه السلع، ولعل أزمة كورونا الطارئة تكون سبباً في أن يشتد ساعد اقتصادنا الوطني ليبدأ في إعادة تشكيل بنيته ليصبح قوياً، ويكون ذلك الوباء المؤقت حافزاً ودافعاً أفضل وأقوى لإعادة هيكلة اقتصادنا من أجل بناء حاضر مستقر ومستقبل مزدهر. * كاتب سعودي Prof_Mufti@ [email protected]