انتفض طه حسين غاضباً ذات مرة حين تبرم بعض الصحفيين من المواد الثقافية الجادة، وتندروا من «تقعر الأدباء والنقاد»، وحاولوا التهوين من شأن الثقافة والأدب، فوجه رسالة غاضبة لرؤساء التحرير وأصحاب الصحف، قائلا: «الصحف اليومية لا ينبغي أن تهبط إلى القراء، بل ينبغي أن ترتفع بهم من الجهل إلى المعرفة، ومن السخف إلى الجد، فهي أدوات رقي في البيئة الاجتماعية، وليست أدوات انحطاط!». جاء ذلك ضمن مقال كتبه طه حسين أواخر الخمسينات الميلادية، بعنوان «بين السخف والجد» رد فيه على إبراهيم الورداني الذي نشر مقالاً في صحيفة الجمهورية، وصف فيه الأدب اليوناني بأنه أدب عفاريت، والأدب العربي بأنه أدب تقعر، والأدب الغربي بأنه أدب استعمار، فثار طه حسين، وانقض عليه بقلمه موبخاً: «رضي عن جهله، ورضي عنه جهله، ولكنه لم يكتف بهذا وإنما أراد أن يذهب الناس مذهبه في إيثار الجهل على المعرفة، وفي الحكم على الأشياء، دون أن يكون له بها علم، ولم يكتف بهذا أيضاً وإنما أراد أن يلقي في روع الناس أننا لا نحتاج إلى أدب أو ثقافة لننشئ ما نحاول إنشاءه من الأدب». ثم حول طه حسين سهام قلمه نحو موسى صبري -رئيس تحرير الجمهورية- الذي نشر تعليقاً تحدث فيه عن نقاشات المثقفين، وأنها ثقيلة، وأكبر من أن تطيق الصحيفة نشرها، يقول طه حسين: «وأخرى ضقت بها أشد الضيق، وأسفت لها أشد الأسف، وهي تلك المقالة التي نشرها الأستاذ موسى صبري مستكثراً على قراء الجمهورية ما نشره صديقنا الدكتور محمد مندور من أحاديث في النقد دارت بينه وبين فريق من الأدباء، وقد ذكر في هذه الأحاديث اسم الشاعر العظيم إليوت، ومذهبه في النقد، وقد نشرت الجمهورية هذه الأحاديث، ثم اعترض عليها موسى صبري لأنه رآها أعلى وأعمق مما يطيق قراء الصحف اليومية، ومعنى ذلك أنه ألغى من حسابه طائفة المثقفين من قراء الجمهورية، سواء منهم من عظم حظه من الثقافة، أو كان حظه منها قليلاً، أو دون القليل»، يكمل طه حسين واصفاً هذه الفئة من الإعلاميين: «يبحثون عن كلام يملأ الصحف، ويريح المحررين من الجهد والعناء ليملأوا صفحاتهم.. يحببون إلى القراء راحة الجهل، ويشفقون عليهم من مشقة المعرفة». يضيف طه حسين موضحاً دور الصحافة ورسالتها الثقافية: «إن الصحف اليومية ليست وسائل إلى إقرار ما هو كائن، وإنما هي قبل كل شيء، وبعد كل شيء وسائل إلى التثقيف والتهذيب، وإذكاء الطموح في نفوس القراء إلى أعظم حظ ممكن من الرقي، ورحم الله زماناً كان أصحاب الصحف يرون أنهم معلمون للناس، لا مجهلون لهم ولا مقررون لما هم عليه من جهل». غضبة طه حسين، وانتفاضته هي غيرة وحمية على الصحافة ودورها الثقافي، وأثرها العميق في حياة الثقافة والمثقفين وعموم المجتمع، ولن يكون من قبيل المبالغة إذا قلنا إن الصحافة الثقافية في العالم العربي كانت مؤسسة عريقة، لها طقوسها، وتقاليدها، وأعرافها، هي بمثابة الشريان الذي يغذي الحركة الثقافية بالروح والتجديد، والمرآة التي تعكس نبض المجتمع.. روحه وهمومه وأسئلته وشكوكه وأفكاره وتياراته وسجالات مثقفيه، والمنصة التي تعلن عن ولادة شاعر، أو انطلاقة أديب، أو بزوغ مثقف جديد. ساهمت الصحافة الثقافية في رفع مستوى معايير النشر، وفرضت قيودا وشروطا، يجب على الكاتب المبتدئ أن يتجاوزها، حتى يقدم نصاً يشفع له أن ينشر في جنباتها، ويستحق بذلك أن يجاور كبار المثقفين العرب.. هذه التقاليد ساهمت في تطور الحركة الثقافية، وخلقت منافسة شرسة محمودة بين المثقفين. حين نعود إلى إرث الصحافة الثقافية سنجد كماً هائلاً من الدوريات والإصدارات التي أثرت المكتبة العربية، منذ أن أسس الأديب اللبناني جورجي زيدان، مجلة «الهلال» المصرية عام 1892، مروراً بمجلة «الرسالة» للأديب المصري أحمد حسن الزيات، ومجلة «المقتطف» ليعقوب صروف، ومجلة «المنار» لرشيد رضا، ومجلة «الفكر المعاصر» لزكي نجيب محمود، وغيرها من المجلات التي كانت تحوي مشاركة لعدد من الأدباء والمثقفين الكبار أمثال مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني، وزكي مبارك وغيرهم. واليوم.. يبدو أن العلاقة بين الجيل الجديد من القراء والصحافة الثقافية لم تعد كما كانت من قبل، ذلك الرباط المتين الذي كان يربط المثقفين والمفكرين والأدباء مع قرائهم عبر صفحات الثقافة أصبح جزءاً من الماضي، وذكريات تنتمي للأرشيف، وجرى استبدالها بمنصات اجتماعية لا تخضع إلى معايير أدبية أو شروط علمية، بل أصبحت تجرف بعض المثقفين والأدباء إلى مزيد من التسطيح، واللهث وراء الجمهور.. لا يمكن عزل هذه الحالة من تراجع دور الصحافة الثقافية عن تقهقر العمل الثقافي الجاد، وانحسار دور الصحافة ككل، فمؤشرات أفول هذه الصناعة لا تخطئها العين، والبدائل والمنصات الجديدة تأكل بشراهة ما تبقى من جسد الصحافة الحزين.