أردوغان وقع على مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الوطني، وتناولت المفاهمات ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا وتعاونا عسكريا وأمنيا بين الدولتين، ورغم أن ما حدث تم بمباركة البرلمان التركي، إلا أن البرلمان الليبي صاحب الشرعية الدولية لم يصادق عليه، وما حدث دفع رئيسه إلى مخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة بطلب سحب الشرعية عن حكومة الوفاق، ولعل الاتفاق أو المفاهمة جعلت أردوغان شريكا في غاز شرق المتوسط، وهو يمثل ثروات تقدر بحوالى 125 ترليون متر مكعب، بالإضافة إلى أنه حول تركيا إلى بلد منتج للطاقة، بعد أن كانت تستورد 95 في المئة من احتياجاتها، وتتكبد خسائر سنوية تصل إلى 50 مليار دولار لتأمينها، ولعل التعاون العسكري والأمني يمثل الوجه الآخر لمصالح تركيا التي ستفقد مفاهماتها فيما لو سقطت الوفاق. ما فعله أردوغان لا يقبله منصف، والغطرسة السياسية التي تنقلها تصريحاته مستفزة، وتهديده لأوروبا بإعادة دواعش سوريا إليها إذا لم تقبل باتفاقه، وكلامه عن موافقة يجب أن تأخذها دول شرق المتوسط من تركيا، وذلك قبل قيامها بأعمال التنقيب، وأنه حق سيادي محسوم ولن يقبل النقاش فيه، رغم الرفض من الشعب والبرلمان الليبي وكل حجر وشجر في ليبيا باستثناء حكومة الوفاق، ومع هؤلاء دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وشركاء ليبيا في شرق المتوسط كمصر واليونان وقبرص وغيرها، وأصحاب المنافع كإيطاليا وفرنسا، خصوصاً وأن المفاهمة غير المفهومة من حكومة الوفاق الوطني، والتي يظهر غياب الوفاق بينها وبين اسمها، أعطت لتركيا حق التنقيب عن النفط والغاز بارتياح في 189 ألف كيلو متر مربع من مياه البحر المتوسط. الاتفاق بين أردوغان والسراج ينطوي على اغتصاب سياسي واقتصادي ضد ليبيا، كما أنه يشبع أحلام الأول في استعادة السيطرة العثمانية القديمة على مقدرات المنطقة العربية، وقد عمل على رسم حدود بحرية بين بلدين لا توجد بينهما مشاطئ أو مناطق بحرية متداخلة أو مشتركة، بجانب تجاهل وجود جزر يونانية على الخارطة واختراقها وكأنها بلا سيادة كجزيرة كريت، ونشرت الصحافة التركية رسماً يحدد مواقع النفوذ البحري الليبي، وهو عبارة عن ممر مائي مائل من أقرب نقاط بين حدود البلدين البحرية، والمفارقة أن الرئيس التركي يحاول إقناع العالم باستخدام تركيا لحقها الطبيعي في حماية مصالحها، وأن تصرفها لا يشكل انتهاكا للقانون الدولي، وينسجم مع قانون البحار الدولي، الذي يحكم ترسيم الحدود البحرية بين الدول. الدولة التركية كانت ولا زالت طرفا في الصراع الليبي، وقد عملت طوال الفترة الماضية على دعم حكومة الوفاق بصورة سرية، وقدمت للوفاق طائرات مسيرة من نوع «بيرقدار» لاستخدامها في أعمالها القتالية ضد الجيش الوطني الليبي الذي يترأسه اللواء خليفة حفتر، وساهمت في نقل الدواعش من سوريا إلى تركيا عن طريق الحدود التركية، وتوجد مؤشرات تؤكد أن هذه العمليات سبقت المفاهمات وأنها لا زالت مستمرة، وأن التدخل العسكري المشروط بطلب الوفاق، والذي لوح به أردوغان، ليس إلا محطة جديدة من محطات تدخل تركيا في الشأن الليبي، وأتصور أن الاتفاق سيدق المسمار الأخير في نعش الوفاق، وأن مكاسب تركيا فيه ستكون مؤقتة ومحدودة. يحاول أردوغان أن يسوق لفكرة المظلومية التركية، في صراعه مع أوروبا وأمريكا، ويعتمد في ذلك على الإرث الإسلامي لتركيا، وبالتالي فهو يعتبر، على سبيل المثال، أن بعض دول أوروبا تعارض انضمام تركيا للاتحاد لأنها مسلمة، والواقع أن تركيا دولة علمانية وغربية في كل ممارستها الداخلية والخارجية، وعلاقتها بالإسلام اسمية لا أكثر، ولا تتجاوز المسجد وسجادة الصلاة، وكل ما يفعله أردوغان في هذه الأيام يعكس جملة من الانتكاسات في حياته السياسية كرئيس دولة، فقد أظهرت استفتاءات الرأي التركية، أن أكرم أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، يتفوق عليه في الشعبية وبفارق كبير، وأن حظوظ أوغلو كرئيس لتركيا، في المستقبل القريب، قائمة وموجودة ومتوقعة، وهروب أردوغان إلى السياسة الخارجية يأتي كمحاولة لاحتواء الداخل التركي المتشنج، ويجوز أن الأتراك وقفوا مع أردوغان ضد انقلاب الجيش في 2016، ولكنهم بالتأكيد لن يفعلوها أن تكرر.