المسألة اليمنية أو تعقيدات «اليمننة» شمالاً وجنوباً، على مر تاريخها وتاريخ علاقاتها الخارجية، تنعكس على العلاقات الخارجية بشكل واضح بين الدول المعنية باليمن بحكم الجوار القريب، أو تلك التي يملؤها الاعتزاز بالروابط القديمة مع اليمن. بعض الدول تضع نفسها موضع السعي فيما يقارب بين المتباعدين أو يرسي أسس تعاون مشترك، مستفيداً من وجهات النظر والآراء المساعدة على تحقيق «التقارب المحتوم» بين كل الأطراف. ويتضح أن اجتهاد البعض في أي المستويات السياسية والإدارية مهما كان إيجابياً يظل مرتبطاً بذوي القول الفصل. مع تجديد الحاضر اليمني وتعقيدات صور الماضي اليمني وتشابكاته، فإنه رغم التشابه الكبير لا يخفى ملامح التغير وعلامات التبدل في اتجاهات الصراع وأطرافه، ومواقعهم وصفاتهم وخلفياتهم. ويحلو الرجوع إلى الإضبارات القديمة لمراجعة تفاصيل تلك المرحلة الماضية من خلال ما يتوفر من مصادر ووثائق تضيء سبيل الاستنارة بمستويات التنسيق والتعاون الإقليمي والدولي المبكر والمبادرات الوطنية للنهوض وتطوير الوضع الداخلي. مما رجعنا إليه من المتوافر إلكترونياً، برقيات وتقارير بريطانية صدرت قبل 50 سنة خلال «العهد البريطاني» بمنطقة الخليج، وتحديداً أبوظبي سنة 1969م. مجمل تلك البرقيات والتقارير كوّنت ملفاً شاملاً ضمن ملفات وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث عن «علاقات أبوظبي واليمن» يحتوي تقارير تخص «زايد واليمن» أو «زايد واليمن الشمالي» أو «أبوظبي واليمن الشمالي» تضيء مطالعتها طريق تفهم الوضع اليمني بتشابكاته المعقدة، داخلياً وخارجياً. تلكم التقارير والبرقيات المتاحة عبر موقع الأرشيف الرقمي للخليج العربي، (إشراف الأرشيف الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة) وأولها في 9 فبراير 1969م، تحكي موقف مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (المتوفى نوفمبر 2004م) تجاه مطالب يمنية شمالية بشأن العون الاقتصادي.. يوم كان حاكماً لأبوظبي فقط، قبل إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة 2 ديسمبر1971م.. وأيضاً قبل اعتراف المملكة العربية السعودية بالجمهورية العربية اليمنية 23 يوليو 1970م. المطلب اليمني الشمالي حمله واحدٌ من أهم أبناء الجنوب اليمني وهو الصحافي المعروف فاروق محمد علي لقمان، مجسداً صورة وحدوية لافتة، كون هَم النهوض بالشمال اليمني شاغلا أساسيا لكل اليمنيين جنوباً وشمالاً، زد على ذلك أن الأوضاع في الجنوب اليمني بعد الاستقلال وقد بدأ ميلها إلى الشيوعية يتضح للعيان، جعلت فاروق لقمان يميز تماماً بين «الأبيض والأسود» ويفاضل بين الشطرين، حتى أنه مع عدد كبير من أبناء الجنوب اتخذوا من الشمال وقد بدت عليه ملامح الاعتدال السياسي، ملاذاً لأبناء الجنوب ومنطلقاً للعمل والعيش في الخارج، لا سيما من رفض الحكم الجديد في عدن وجودهم ولفظهم بعيداً عن نواحيه. فاروق لقمان (ابن رائد الصحافة والتنوير في عدن اليمنية، والصحافي المشهور المتوفى أواخر يوليو 2019م) قدم نفسه -حسب البرقية البريطانية عن حديث الشيخ زايد حول الطلب اليمني الجمهوري- مبعوثاً لليمن الشمالي، وبصفته الصحافية التي يشتهر بها «مندوباً لوكالة يونايتدبرس، وصحيفة نيويورك تايمز» وعززت مكانته وخبرته المهنية، مع ما يرتبط به من صلات شخصية مع رجالات حكومة صنعاء برئاسة الفريق حسن العمري (توفي عام 1989م)، وأبرزهم وزير الاقتصاد عبدالعزيز عبدالغني (صهر لقمان)، ووزير الخارجية يحيى جغمان. (وقد صار عبدالغني نائباً للرئيس ورئيساً لمجلس الشورى توفي 2011م فيما بعد، وجغمان نائباً لرئيس الوزراء). طلب الحكومة اليمنية المقدم عبر الصحافي لقمان، الذي ظل يؤكد العيش في «عالم بلا حدود» وصل قصر أبوظبي، منتصف يناير 1969م، متزامناً مع زيارة يجريها الشيخ زايد إلى باكستان، طبقاً لنص البرقية. صورة الوضع السياسي الجمهوري تعرض البرقية الموقعة من «السيد تريدويل بأبوظبي» صورة الوضع السياسي اليمني، وما تعتزمه حكومة الفريق حسن العمري -ومن ورائه رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني- من اتصالات خارجية تخدم توطيد أقدام وسلطات نظام الجمهورية اليمنية، وتوسع نطاق المعترفين بالجمهورية بأن تخترق أسوار غير المعترفين من المعسكر الغربي، ونزوعها إلى تحجيم العلاقات مع الجانب الشرقي وتياراته السياسية. البرقية أوضحت أيضاً «مخاوف الشمال من نزعات التخريب لدى الجنوب اليمني» بعد الاستقلال. في ظل هذا التوجه من جانب حكومة صنعاء، طرحت «تساؤلها على حكومة أبوظبي عما يمكن الأخيرة تقديمه تحقيقاً لغاية صنعاء: منحةً أو قرضاً أو مشروع تنمية». مع «عرض رئيس حكومة صنعاء دعمه الكامل للإمارات العربية المتحدة المنتظر إعلانها». توقع البريطانيون «أن إبداء المساعدة من جانب حاكم أبوظبي الشيخ زايد بن سلطان، قد يجعله يوجه دعوة لوزراء العمري: جغمان وعبدالغني، لمناقشة هذه القضايا». رد الشيخ زايد الشيخ زايد وزن الموقف من جانبه، وقال: «إن تعبير العمري بشكل صحيح عن نوايا الصداقة والجيرة الطيبة تجاه السعودية، هو ما سيجعله مستعداً لتقديم العون بما يخدم استقرار المنطقة.. مع استطلاعه الموقف وقياس رد الفعل تجاه الإقدام على هذه الخطوة». استطلاع الموقفين قائمٌ على عدة أمور منها بالنسبة لنفوذ الدولتين: • استمرار «العهد البريطاني» في الخليج.. ولما ينتهِ بعد. • اتساع الحضور السعودي في المنطقة. وأيضاً تقدير الدولتين للموقف اليمني الجمهوري عموماً من حيث: • عدم انتهاء المشكلة اليمنية -حسب التوصيف الرسمي السعودي للحرب بين الجمهوريين والملكيين اليمنيين- بما يقرره الشعب اليمني. وإن رحبت بوصول بعثة حج يمنية من صنعاء مطلع عام 1969م. • عدم اعتراف بريطانيا بالجمهورية -وإن أقرت بوجودها- نتيجة عدم سيطرتها على كافة مناطق اليمن الشمالي، واستمرار النزاع فيها. تكرار الطلب المطالبة اليمنية بمعونة أبوظبي، لم تقف عند حد الطلب الأول، بناءً على برقية أول مارس 1969م، فقد ألحق بطلب ثانٍ أواخر فبراير، دون أن تكشف برقية السيد تريدويل هوية حامل الطلب هذه المرة. لكن أجواء اللقاء بين الشيخ زايد والوكيل السياسي البريطاني والمقترحات والردود المتزامنة بين حاكم أبوظبي ووكيل لندن (الذي يفضل رفض الطلب)، توحي بأن الطلب أرسل دون رسول مباشر. بيد أن المباشر في جواب زايد هو حسبان موقف السعودية. وتفسير كاتب البرقية الواصفة للقاء بما معناه أن زايد لا ينوي استفزاز أحد، دون تفسير المُبرِق رغبة زايد صون روابطه بالجميع، إذ بمجرد: - طلب صنعاء العون وإبداء استعداد أبوظبي. - عرض دعم نشوء اتحاد الإمارات. تكون قد نشأت علاقة مع اليمن ليس لها أن تنقطع، كما يحرص على أن لا تنقطع علاقاته هو مع الجوار السعودي. إذ حدد أن: إبداء صنعاء موقفاً ودياً تجاه جواره سييسر تقديم المساعدة. ترحيب زايد بزيارة المبعوث لقمان مع أن حاكم أبوظبي أشعر الجانب البريطاني بقبول مقترح رفض مساعدة صنعاء، (حسب برقية المعتمد السياسي بالخليج السير كراوفورد من البحرين 19 أبريل 1969م) لكنه عاد يفكر عقب برقية وجهها مبعوث الحكومة اليمنية لقمان عن زيارته المرتقبة لأبوظبي (تقول البرقية البريطانية إن زايد نسي اسمه، واعتبره صهراً للفريق العمري!)، وأعرب زايد لوكيل السير كراوفورد في أبوظبي (يوم 16 أبريل) عن تخوفه من تفويت فرصة اكتساب أصدقاء جدد يعرضون نسج العلاقات مع الغرب والتحرر من الشيوعيين. لذا فإنه لم يمانع وصول المبعوث إليه قريباً. معرباً عن رغبته ب«إحاطة السعوديين بالأمر، وأكد كذلك أنهم حال اعتراضهم سيضع حداً للتواصل مع الجانب اليمني». تضمنت برقية بريطانية 21 أبريل أمل المسؤول البريطاني السيد ستيوارت من مكتب الكومنولث بلندن (بدا انتقاده حاداً لما يعرضه الشيخ زايد برغم منطقيته وواقعيته) أن يوقف الشيخ زايد أي مساعدة مادية -مع أنه لم يعرضها بعد- للشمال اليمني طالما لم يتفق مع محيطه الإقليمي. (وهو ما يريد زايد معرفته) موصياً بضرورة تفهم وجهة نظر الجانب السعودي بشكل كامل. ثم تعليقاً على تخوف الشيخ زايد من خسارة صديق جديد، طلب ستيوارت من المسؤولين البريطانيين بالبحرين أن يخبروا الشيخ زايد بأن ما يطرحه الجانب الشمالي اليمني من حجج «القلق من الشيوعيين» ورغبة «الارتباط بالغرب» كررها الجمهوريون اليمنيون منذ 1962م بغرض عزل الملكيين. وأوضحوا أن «الملك فيصل تهيمن عليه فكرة مقاومة الشيوعية في الجزيرة العربية»، مبينين أن تفكيره ملياً وباستمرار في هذا العامل، هو أفضل تكتيكات التقارب مع شمال اليمن.. وهو ما حدث فعلاً.. كان تطرف سياسة الجنوب بعد الاستقلال، سبباً في اقتناع الرياض باعتدال سياسة الشمال. وفي الرابع والعشرين من أبريل استحسن السيد موريس عبر برقيته من جدة إلى مكتب الكومنولث إحاطة السعوديين بهذه الاتصالات لئلا تصلهم نسخة مشوهة عن فحواها. وعقب السيد ستيوارت بأنه سيرى برقية موجهة إلى المندوبية بالبحرين، تتضمن عدم الاعتراض، وأنه ينبغي إحاطة السعوديين بهذه الاتصالات. وأعرب كراوفورد عن مقدار سعادته حال معرفة أي رد فعل سعودي. لقاء الشيخ زايد مع لقمان رداً على البرقية السابقة، أبرق السيد رييف من أبوظبي بتاريخ الخامس من مايو 1969م بإخبار الشيخ زايد إياه «الليلة الماضية بأنه التقى فاروق لقمان من خمسة أيام مضت» أي أواخر أبريل؛ اعتبر البريطانيون أن «لقمان قد أحرز تقدماً ضئيلاً في مسألة المساعدة». إذ أخبره زايد «بإمكانية المساعدة حال موافقة نظام الشمال اليمني على تقديم مبادرة صداقة لبريطانيا». لقمان أوضح في جوابه على الشيخ زايد بأن «العمري حريص جداً على تطوير الاتصال والعلاقات مع بريطانيا، لكنه لا يستطيع ذلك ما لم تلتق به بريطانيا في منتصف الطريق». هنا التقط الشيخ زايد فرصة المبادرة بعرض المساعدة في ذلك «أنه سينقل رسالة العمري إلى حكومة صاحبة الجلالة». أي لم يترك لقمان يخرج خالي الوفاض من وعد يسهل الوفاء به أو محاولة يمكن إجراؤها. دشنت الاتصالات البريطانية مع الجانب السعودي، (حسب تقارير وبرقيات صادرة خلال شهر مايو 1969م) في جدة يوم 5 مايو من جانب السيد موريس والسيد كمال أدهم المستشار الخاص لجلالة الملك فيصل، ورئيس الاستخبارات السعودية، الذي علق على ذلك بأنه سيكون مفيداً جداً مواصلة زايد هذه المفاوضات، كما لن تعترض السعودية على مبدأ مساعدة زايد للعمري، خصوصاً أنه سيتضح للعمري أن مساعدة زايد له برهان على أن تحسين العلاقات مع السعوديين تفيد في دعم الجهات الأخرى «حسب قول أدهم» بمعنى أن يقول للعمري تحسين العلاقة مع السعودية أو لن تنال شيئاً.. أجاب أدهم: «نعم». ثم عما إذا نقلوها إلى زايد باعتبار قوله «تصريحاً سعودياً مسؤولاً».. وأكد أدهم ثقته بأن الملك فيصل سيوافق على ما أدلى به أدهم من رأي، مع تفضيله الانتظار حال عودته إلى السعودية من بيروت (منتصف مايو) ومعرفة صورة الوضع كاملاً في صنعاء بعد لقائه بنعمان (يقصد السفير اليمني المتجول محمد نعمان الذي بدأ اتصالات المصالحة الوطنية ومساعي التقارب بين صنعاءوالرياض). واقترح موريس بموافقة كمال أدهم متابعة الأمر. البرقيات البريطانية الأخيرة وما تحقق أخيراً تواريخ البرقيات المتداولة بين جدةوأبوظبيوالبحرينولندن حيث القسم المختص بالشؤون العربية بوزارة الشؤون الخارجية والكومنولث، تثبت تناول الأمر مع السيد أدهم يوم الخامس من مايو، حسب برقية مؤرخة 8 مايو، عقب محادثة الشيخ زايد بالصحافي اليمني مبعوث حكومة صنعاء فاروق لقمان، أواخر أبريل. برغم ثقة البريطانيين في مكانة كمال أدهم وتأثيره بالنسبة لقبول طرحه حول هذه المسألة غير أنهم (حسب برقية 22 مايو) ينتظرون صدور كلمة من الملك فيصل بهذا الشأن، تعبيراً عن السياسة السعودية، وينصحون زايد بالاعتماد عليها. لكنهم عادوا يبرقون يوم 29 مايو، بعد مضي أسبوع من البرقية الأولى يقترحون نصح الشيخ زايد بعدم تقديم أي دعم مالي للنظام الجمهوري شمالي اليمن، مع تحاشي الاتصالات مع مبعوثي هذا النظام الذي من المرجح قد يساء فهمها، مؤكدين أن زايد من الحكمة بحيث يستفيد من هذه النصيحة لا سيما أن الوضع الداخلي اليمني غير مستقر.. حتى تلك اللحظة. قبل أن تصل هذه البرقية في ال30 من مايو 69 إلى أبوظبي، كان السيد رييف قد تحدث إلى الشيخ زايد قبيل مغادرته إلى الأردن أول يونيو عبر جدة، بهذا الخصوص، واتساقاً مع ردود زايد السابقة، وتقديره للموقف وموازين القوى، وانسجاماً مع تقديره للملك السعودي فيصل، الذي طلب زايد معرفة رد فعله منذ بدء اتصال صنعاءبأبوظبي مطلع العام، فإنه أجاب بعدم التواصل مع اليمن، أو تقديم المساعدة المادية إذا لم يكن فيصل يرغب في حدوث ذلك.. فكان إيذاناً بالتعاون وتنسيق المواقف المشتركة بين البلدين حول قضايا وبلدان المنطقة. لكن محاولات صنعاء لم تذهب سدىً.. إذ بعد سنة واحدة من هذه الاتصالات بالشيخ زايد عبر الصحافي فاروق لقمان، بالتنسيق مع وزراء حكومة الفريق العمري: عبدالعزيز عبدالغني ويحيى جغمان، والمتابعة البريطانية الحثيثة.. أمكن لليمن الجمهوري إتمام التفاهم مع السعودية وكسب اعترافها رسمياً بجمهورية صنعاء في يوليو 1970م، تلاها اعتراف بريطانيا وفرنسا، ثم يستقبل اليمن من بعدها موفدي الشيخ زايد حاكم أبو ظبي قبيل إعلان الإمارات العربية المتحدة 1971م، يقدمون الدعم المادي لمختلف مجالات التنمية اليمنية أولى سنوات العلاقات بين اليمن والإمارات، في عهدي رئيسي البلدين القاضي عبدالرحمن الإرياني والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. * باحث سياسي وصحافي يمني رئيس منتدى النعمان الثقافي للشباب