لطالما افتخر وتباهى نظام الملالي بسيطرته على أربع عواصم عربية شقيقة، في إشارة لنفوذه المتنامي في بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق، وقد اعتبرت طهران أنها نجحت في أن تجعل تلك الدول تدين بالتبعية لها؛ بأن تجعلها تأتمر بأوامرها وتنتهي بنواهيها، محققة بذلك جزءاً من أطماعها التوسعية باستعادة إمبراطوريتها القديمة الغابرة، وهو ما فتح شهيتها أكثر على ابتلاع المزيد من الأنظمة سواء كانت بعيدة أو متاخمة لحدودها، وأسال لعابها على التهام المزيد من الأراضي المتساقطة عقب الصراعات والحروب والمنازعات التي تشتعل في بعضها، مما حفزها على التدخل في شؤون بعض الدول للتعجيل بتفككها وتشرذمها، تمهيداً للسيطرة عليها وإلحاقها بمربع الدول الموالية والتابعة والمنصاعة لها. ولكن لم يطل الأمر كثيراً قبل أن يتضح وهن ووهم الرواية الإيرانية عن مدى قوة واتساع نفوذها وشموله، ففي سوريا التي تتحكم فيها إيران من خلال نظام الأسد، اتضح تماماً عدم قدرتها على مواجهة غضب المحتجين وتأجج الثورة ضد النظام الغاشم، وعندما بدأ النظام السوري يتصدع بالفعل ويتفكك تحت وقع ضربات الثوار الرافضين لحكم الأسد، فما كان من الرئيس السوري ونظام طهران معاً إلا أن يستعينا بروسيا كقوة عظمى، معترفين على نحو لا يقبل الجدل بفشلهما في إدارة ملف الصراع بمفردهما، ومع تدخل روسيا تمكن الأسد من تأمين استمراره في الحكم مع بسط سيطرته على أجزاء من سوريا فحسب، تاركاً -على سبيل المثال وليس للحصر- الشمال السوري ضحية للانفلات الأمني، وهو ما منح تركيا الذريعة المناسبة للتدخل العسكري في تلك المنطقة، مستبيحة الحدود السيادية لسوريا دونما أدنى اكتراث، ومبرهنة على ضعف ومحدودية قدرات النظام الإيراني في حماية حليفه الأسد في السيطرة على كامل التراب السوري. يعرف النظام الإيراني قدراته جيداً لذلك لم يسع بأي صورة من الصور للاصطدام بتركيا وفضل عدم التدخل في صراعها الأخير في شمال سوريا، على الرغم من مساس ذلك بالسيادة السورية على نحو لافت ومؤسف، وفي سياق موازٍ نجد أن التدخل الإيراني لمساندة الحوثيين لم يجلب لليمن إلا المزيد من الخراب والدمار، وتاركة الداخل اليمني يزداد نزفاً وألماً مع تصاعد حدة الفقر وتفاقم شدة تفشي الأمراض الفتاكة، ملقياً باليمن في قاع مظلم لا قرار له بسب إصرار النظام الإيراني على دعم ميليشيا الحوثيين الذين التهموا الأخضر واليابس في اليمن. ولو عدنا بذاكرتنا قليلاً للوراء، لأسابيع قليلة مضت عندما اندلعت المظاهرات الدامية في العراق، منددة بالتدخل الإيراني في الشأن الداخلي العراقي، مما انعكس في تفشي عدد من الظواهر السلبية مثل انعدام الخدمات الأساسية وازدياد معدلات البطالة والمعاناة من الفقر والفساد، فسنجد أن أصابع الاتهام قد اتجهت بوضوح نحو إيران؛ حيث أعلن المتظاهرون بما لا يدع مجالاً للشك أنهم يتهمون إيران بتسميم الأجواء العراقية، ويطالبون بجلاء تام بضرورة توقفها عن توجيه القيادة العراقية أو محاولة التأثير على طريقة الحكم فيها أو التدخل في شؤونها. أما العاصمة الأخيرة التابعة للإمبراطورية المزعومة (وهى بيروت) التي كانت تلقب في سبعينات القرن الماضي بسويسرا الشرق، قبل أن تمزقها الحرب الأهلية وقبل أن تتدخل الأصابع الإيرانية في إدارتها من خلال حزب الله، فقد فاضت شوارعها بالمتظاهرين خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك على نحو عفوي غير مدروس وغير مخطط له، بعد أن ضاق اللبنانيون بالفساد والمحاصصة والفقر والديون، وبعد أن ضجروا من فشل النخبة السياسية في إدارة أمور الدولة، هذه المظاهرات التي ما زالت تجتاح شوارع لبنان حتى لحظة كتابة هذا المقال، والتي تزداد يوماً بعد يوم رغم سعي الحكومة اللبنانية لتمرير بعض القرارات الشعبية، لقد صرح بعض الساسة في لبنان بأن حزب الله -الموالي لطهران- لم يكن أكثر من معول هدم في مسيرة حياة اللبنانيين. لطالما صرح حسن نصرالله بأن حزب الله قادر على تغيير أي معادلة سياسية في لبنان، ويبدو أن هذا الأمر صحيح ولكن من منظور عكسي، فحزب الله الذي يعتبر الذراع الضاربة لطهران قادر بالفعل على إفساد أي معادلة سياسية بلبنان، وقادر على تخريب أي محاولة صلح أو تقريب بين مختلف فئات وطوائف الشعب اللبناني، والجدير بالذكر أن المطالبين برحيل حزب الله عن حكم لبنان ليسوا بعض سياسيِّي لبنان فحسب، ولكنهم أبناء الشعب اللبناني نفسه، المدركون بفطرتهم السليمة ألاعيب ومؤامرات الحزب السياسية للانفراد بحكم لبنان والتأثير في قراراته. الانتفاضة الأخيرة التي اندلعت في شوارع بيروت منددة بكل رموز الحرب الأهلية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ورافضة استمرار الفساد والبطالة والفقر والتردي الاجتماعي والتبعية السياسية لإيران، سطرت فصلاً جديداً مناهضاً للسيطرة الإيرانية ولنفوذ الملالي في منطقة الشرق الأوسط، ولينفرط بذلك عقد العواصم العربية الأربع التي تدعي إيران تبعيتها لها على نحو فج ومرفوض، وقد فضحت كذبها وادعاءها الحركات الشعبية التي اندلعت جميعها على نحو تلقائي رافضة هذه الهيمنة وتلك التبعية المهينة والمذلة، ومُدينة بصورة مباشرة أنظمة حكمها الضعيفة الخانعة التي تبحث عن العباءة الإيرانية لتختبئ خلفها وتخفي فشلها، ومطالبة بغاية الوضوح والحسم بانسحاب النظام الإيراني من حكم دولها، ومحاولة فرض أجندتها المشبوهة عليها، واحترام إرادتها الشعبية في أن يبني كل بلد حاضره ومستقبله بأيدي أبنائه بعيداً عن التدخل والهيمنة السياسية الخارجية. * كاتب سعودي