كان جنوب مدينة المحرق الشماء، وتحديداً «حالة بوماهر» على موعد في الخامس من يناير عام 1900 مع ميلاد من ستذكره الأجيال البحرينية والخليجية المتعاقبة على مدى ثمانية عقود كواحد من أساطين الطرب الشعبي البحريني ورواد الصوت الخليجي المتميزين بوضع بصماتهم الخاصة على هذا اللون من ألوان الغناء. لقد كان ميلاد الفنان الكبير محمد جاسم عبدالله زويد في ذلك اليوم من أيام الشتاء الباردة حدثاً عادياً في حينه، لكن الأيام أثبتت لاحقاً خلاف ذلك. إذ لم يحل الربع الأول من القرن العشرين إلا وثالوث فن الصوت البحريني يكتمل بوجود الكبيرين محمد بن فارس وضاحي بن وليد، وبروز تلميذهما محمد زويد الذي عمَّر حتى الثمانين على العكس من ضاحي بن وليد الذي مات بالسل في مطلع الأربعينات عن 43 عاماً، طبقاً لما ذكره أحمد الواصل في الصفحة 25 وما قبلها من كتابه «سحارة الخليج، دراسات في غناء الجزيرة العربية» (الطبعة الثانية/ منشورات أحمد الواصل/ بيروتالرياض/2014). غير أن زويد تميز عن بن فارس وبن وليد بعدم حصر حنجرته في أداء الأصوات الخليجية الكلاسيكية، بمعنى أنه غنى أيضاً ألواناً أخرى من الغناء مثل الخماري والبستة والسامري، بل قدم فوق هذا وذاك ألواناً غير مسبوقة في الخليج من الغناء الكوميدي والخفيف. وإذا كانت أغنية «كوكو» التي اشتهر بها منذ السبعينات هي مثال على صحة كلامنا هذا، فإنه ليس المثال الوحيد، فإلى جانب «كوكو»، غنى بعد أن غيَّر في كلمات شطرها الثاني طقطوقة مصرية من ألحان سيد درويش مطلعها «يا نواعم يا تفاح حاجة حلوة كويسة.. واللي بتبيعك بيضة وأمورة وست النساء»، كما غنى لسيد درويش أغنية «طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة» لكن بالأسلوب الخليجي المعتمد على آلتي العود والمرواس. وله أغنية غريبة تقول كلماتها «من عنده تريك وأرقص وياه». وتعليقاً على هذه الأغنية، وفي معرض التدليل على أن الذائقة والثقافة تختلف من مكان إلى آخر وكذا الحكم على الأشياء بالقبول والرفض، كتب ذعار الرشيدي في الأنباء الكويتية (19/8/2018) ما يلي: «الأغنية الوحيدة في تاريخنا الغنائي عن التريك هي أغنية المطرب البحريني الراحل محمد زويد وتقول كلماتها: (من عنده تريك وأرقص وياه) ومنذ أن انطلقت لا أحد يعرف سر كلماتها ولا معناها الدقيق، ولو أن أحداً غير ملك الأصوات الراحل محمد زويد قام بغنائها لما سمع عنها أحد». ومن المؤكد أن قيام زويد بتنويع أغانيه يعود إلى احتكاكه بالآخرين من خلال السفر. فالرجل من بعد تعلمه القرآن الكريم في الكتاتيب التقليدية بالمحرق، ركب البحر في سن الخامسة عشرة «تبابا»، وسرعان ما تحول إلى «نهام» فوق سفن الصيد والغوص بفضل قوة حنجرته. لاحقاً تعلم عزف العود من خلال تردده على «دار البصرة» في «داعوس بمبي» بالقرب من مسكنه، حيث علمه وقرَّبه صاحب الدار الفنان الكبير محمد بن فارس آل خليفة مقابل قضاء حوائجه اليومية، علماً بأن الأخير يُعتبر المعلم الأول لزويد وصاحب أفضال كثيرة عليه. وهكذا أهَّله صوته القوي وإتقانه العزف على العود للبروز كمطرب يغني في دور الطرب الشعبية وفي حفلات الزواج وفي بعض السهرات الخاصة لقاء مبلغ زهيد من المال. وبمرور الأيام زادت رقعة شهرته، فوصلت إلى الكويت ودول الخليج الأخرى والهند، وبالتالي صار مطلوباً في حفلات وسهرات أكبر. ربما كان المنعطف الأبرز في حياة محمد زويد الفنية هو سفره إلى العراق في عام 1929 بترشيح من أستاذه محمد بن فارس لتسجيل أول مجموعة من أسطواناته لدى شركة «بيضافون» للتسجيلات الصوتية في البصرة، فسبق بذلك معلميه (بن فارس وبن وليد) اللذين لم يسجلا أعمالهما الغنائية على أسطوانات إلا بدءاً من عام 1932، في استوديو «هيز ماسترس فويس» ببغداد. وبهذا دخل زويد التاريخ جنباً إلى جنب مع الفنانين الكويتيين عبداللطيف الكويتي وعبدالله فضالة، ضمن أوائل من قاموا بتوثيق أعمالهم على أسطوانات. تلك الأسطوانات التي لعبت دوراً محورياً في انتشار أعمال زويد الأولى واستحسان الجمهور لها. على أن الفائدة التي جناها الرجل من رحلته الخارجية الأولى إلى العراق لم تقتصر على ذلك فحسب، وإنما اكتسب خلالها أيضاً فرصة الاطلاع على الأغاني والمقامات العراقية ومحاولة إعادة غنائها ونشرها في البحرين بأسلوبه الخاص وصوته المتميز بنكهة البحرين وعبق فرجانها الشعبية، حيث امتدت إقامته في العراق آنذاك إلى نحو أربعة أشهر بسبب تأخر وصول آلات التسجيل من ألمانيا، الأمر الذي وجد معه متسعاً من الوقت للتعرف عن كثب على فنون الطرب العراقي. ويظهر هذا جلياً في قيامه بأداء الأغنية العراقية المعروفة «لا ريدهم لا ريد حنتهم عليّ.. يا دقة المحبوب دقة خزعلية» التي غنتها سليمة مراد أولاً ثم زوجها ناظم الغزالي لاحقاً، ناهيك عن اختياره مقاماً من كلمات الشاعر الرقيق حسام الدين عيسى بن سنجر الحاجري، وغنائه لتصبح واحدة من أشهر أغانيه. يقول مطلع الأغنية: جسد ناحل وقلب جريح ودموع على الخدود تسيح وحبيب مُر التجني ولكن كل ما يفعل المليح مليح ومما لا شك فيه أن هذه العوامل مجتمعة شجعته على العودة إلى العراق مجدداً في عام 1936 لتسجيل دفعة جديدة من أغانيه، فسجل أسطوانة تضمنت 40 أغنية، كما شجعته على السفر إلى الهند، حيث كانت شهرته قد سبقته إلى هناك واكتسحت أوساط الخليجيين المقيمين والعاملين في «بمبي» وغيرها من المدن الهندية، فقام بتسجيل عدد آخر من أغانيه لدى شركة «أوديون» الهندية للتسجيلات. ومما لا شك فيه أيضاً أن زويد حقق المزيد من الشهرة والنجاح والتألق الفني في عام 1941 والسنوات التي سبقت انتهاء الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1941 افتتح الحلفاء في البحرين ما عرف بإذاعة التليغراف لمواجهة الدعايات التي كانت تبثها إذاعة برلين النازية باللغة العربية، وكان من ضمن برامج إذاعة التليغراف فقرات غنائية تبث على الهواء مباشرة، حيث واظب زويد على تقديم وصلات غنائية في أيام معينة، الأمر الذي ارتفع معه عدد معجبيه ومستمعيه، خصوصاً وأن ساحة الغناء كانت قد خلت في أواسط هذه الفترة من معلمه محمد بن فارس الذي توفي في عام 1947. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في انتشار اسم زويد وأعماله أكثر فأكثر عاملان؛ أولهما قيام عبدالرحمن الساعاتي وأبنائه بتأسيس أول معمل من نوعه في البحرين، في فريج المخارقة بالمنامة، لتسجيل الأسطوانات في عام 1948 من خلال آلات وأجهزة جلبوها من ألمانيا، وهو ما أتاح لزويد تسجيل أعماله محلياً ونشرها في أوساط مواطنيه بأسعار مقبولة، وثانيهما افتتاح إذاعة البحرين اللاسلكية في سنة 1955 التي حرصت على إذاعة أعماله الغنائية بصفة منتظمة، فأوصلت صوته وفنه إلى كل بيت بحريني وخليجي. ومن المعروف في هذا السياق ما دأبت عليه إذاعة البحرين لسنوات طويلة من تخصيص فترة ما قبل الظهيرة من كل يوم جمعة لإذاعة مختارات من أغاني زويد، ولا سيما أغاني: «ظريف المحاسن»، «يا حمود ما شفت الخضر»، «لان الحصا واللي أهواه ما لان»، «أتهجرنا وأنت لنا حبيب»، «كوكو»؛ ناهيك عن أصوات: «لمع البرق اليماني»، «هذي المنازل»، «يا واحد الحسن»، «مر ظبي سباني»، «يحسدوني»، «اغنم زمانك»، «مال غصن البان»، «يحيى عمر قال مياس الغرام أقبل»، «يحيى عمر قال محبوبي نقض عهده»، «دمعي جرى على الخدود»، «قال المعنى»، وغيرها. وفي هذا السياق أخبرنا الكاتب الصديق سعيد الحمد في مقاله المنشور بصحيفة الأيام البحرينية (28/4/2017) أن أحد العاملين في إذاعة البحرين آنذاك قرر أن يستبدل ذات جمعة أغاني زويد بأغانٍ منوعة أخرى في الفقرة المخصصة له، فانهالت شكاوى واحتجاجات واتصالات المستمعين، مطالبة بإرجاع الأمور إلى وضعها السابق. ومن أغاني زويد التي تعلق بها مستعمو إذاعة البحرين طويلاً أغنية ظريفة تقول كلماتها: يالخلق يالتدرون بناري وعذابي إيش العمل والراي راحن شبابي منهو انجبر مثلي وصبر ومن القهر دمعي عبر عدل عقالك زين بابن الحمولة حكيٍ حكيته وياك بالك تقوله كل السنون عظام وسنونه فضة حبي زبد بقلاص، اشلون أكظه في حصيلة زويد الغنائية مجموعة من الأغاني المختارة بعناية من عيون الشعر العربي الفصيح القديم والحديث التي أداها بطريقته الخاصة أو «الطريقة الزويدية» بحسب تعبير الكاتب سعيد الحمد. من هذه القصائد: قصيدة «أنوح إذا الحادي بذكركم غنى/ وأبكي إذا ما البرق من نحوكم عنَّا» لشمس الدين محمد بن القاسم الواسطي؛ وقصيدة «إن يحسدوني على موتي فوا أسفي/ حتى على الموت لا أخلو من الحسد» لأبي الطيب المتنبي؛ وقصيدة «عزيزُ أسىً من داؤه الحدقُ النُّجُلُ / عياءٌ به مات المُحِبُّون من قبلُ» للمتنبي أيضاً؛ وقصيدة «جاءت معذبتي من غيهب الغسق/ كأنها الكوكب الدري في الأفقِ» للشاعر لسان الدين بن الخطيب؛ إضافة إلى واحدة من أجمل قصائد الشيخ سلامة حجازي والتي يقول مطلعها: سلوا حُمرة الخدين عن مهجة الصبِّ ودُرَّ ثناياكم عن المدمعِ الصبِّ أعاتب روحي في هواكم فإنها لَأبعدُ شيءٍ في الغرام عن القلبِ وأسأل قلبي: أيَّ ذنبٍ جنيتَهُ؟ فلم يعترف قلبي بشيءٍ سوى الحبِّ فإن كان ذنبي شدة الحب عندكمْ سألتكمُ بالله لا تغفروا ذنبي قد يقول سائل كيف تمكن زويد من الوصول إلى هذه القصائد الجميلة وانتقائها ليغنيها، وهو الرجل غير المتعلم. الجواب نستقيه مما ذكره الباحث والفنان البحريني إبراهيم راشد الدوسري صاحب كتاب «محمد زويد، وتر البحرين الأصيل»، في بحث له منشور في مجلة «الثقافة الشعبية» الفصلية البحرينية (العدد الخامس، ربيع 2009). يقول الدوسري ما مفاده أن زويد كان في بداية الأمر يستعين بشخص يدعى يوسف إبراهيم مطر لينتقي له القصائد، لكنه لاحقاً ارتبط بالأستاذ يوسف العمران الذي «كان مغرماً بالأصوات واستخدام القصائد العربية في غنائها» وكان لهذا السبب يتردد على «دار الخضاري» بالمحرق حيث كان زويد يتردد أيضاً، فتوطدت العلاقة بين الرجلين سريعاً إلى درجة أن الأول راح يعاون الثاني في اختيار القصائد التي سيغنيها من دواوين شعراء من أمثال المتنبي وبهاء الدين زهير وأبي فراس الحمداني، إضافة إلى قصائد لشعراء من اليمن والحجاز، بل كان، علاوةً على ذلك، يساعده على حفظها عن ظهر قلب، ويكتب له كلمات أغانيه الوطنية، ويرافقه في جولاته الخارجية. فمثلاً رافقه إلى مصر في سنة 1957، حيث سجل زويد مجموعة من أغانيه في إذاعة «صوت العرب من القاهرة»، وتعرف عن طريق العمران على الفنان المصري صاحب الصوت الفريد كارم محمود وأحيا معه بعض السهرات الموسيقية. ثم رافقه في عام 1961 إلى الكويت لإحياء احتفالات الأخيرة بمناسبة استقلالها، حيث سجل زويد بعض أغانيه لصالح الإذاعة الكويتية، وتعرف على التاجر الكويتي المولع بالغناء «فاضل مقامس» الذي استضافه في داره بينما قام زويد بإحياء سهرة طربية خاصة له في الفنيطيس. وفي هذه السهرة تصادف وجود الملحنين الكبيرين بليغ حمدي ومحمد الموجي والمطرب السعودي محمد عبده فتعرف عليهم للمرة الأولى. وفي فترة لاحقة رافق العمران صديقه زويد إلى بيروت حيث غنى في سهرة خاصة لأحد أمراء الخليج، والتقى فيها الموسيقار فريد الأطرش الذي أعجب بصوته وقال مازحاً: «إن في صوت زويد غنة لطيفة»، طبقاً لما كتبه إبراهيم الدوسري في فصلية الثقافة الشعبية (مصدر سابق). عُرف زويد بالتواضع بدليل أنه كان يتنقل ما بين فريجه وأسواق المحرق مشياً على الأقدام، حاملاً «بشته» على ذراعه، ومتردداً على المقاهي الشعبية لمجالسة أصدقائه ومحبيه (سعيد الحمد، مصدر سابق) كما عُرف بالوفاء، كما في حالة وفائه الشديد لأستاذه محمد بن فارس، التي تجلت في قيامه في عام 1947 باستئجار دار الأخير (دار البصرة) من بعد وفاة صاحبها كي تظل مفتوحة وعامرة بمحبي بن فارس وعشاق فن الصوت البحريني (إبراهيم الدوسري، مصدر سابق). وفوق هذا وذاك كان الرجل مخلصاً لفنه، ويشعر بأن عليه مواصلة الغناء والاستمرار في حمل الراية والأمانة الفنية التي تركها له معلمه محمد بن فارس دون ملل. وفي هذا السياق يروي الأستاذ الشاعر حسن كمال المدير الأسبق لإذاعة البحرين في أحد اللقاءات الصحفية ما مفاده أنه في إحدى المرات طلب من أصدقائه في النادي الأهلي دعوة محمد زويد ليصحبهم في إحدى الرحلات، فذهب شخصياً لدعوته، فلبى الدعوة عن طيب خاطر، وفي الطريق وهو في السيارة بدأ زويد يغني ويعزف على العود إلى أن وصل إلى مكان الرحلة فواصل غناءه إلى ما بعد منتصف الليل ونام قليلاً ثم عاود الغناء إلى مساء اليوم التالي دون ملل أو تعب. وزويد، الذي حظي بتكريم خاص من قبل وزارة الإعلام البحرينية في حفل أقامته الأخيرة سنة 1978 في استوديو رقم (3) بمبنى تلفزيون البحرين، بحضور ومشاركة عدد من المطربين الشعبيين والشعراء ممن واكبوا مسيرته المتميزة وعرفوه عن كثب من أمثال عبدالله سالم بوشيخة وعلي خالد هجرس وعبدالله أحمد ويوسف فوني وجاسم العمران ويوسف قاسم وعبدالرحمن رفيع، خسرته البحرين وأقطار الخليج العربية في الخامس من يونيو 1982 عن عمر ناهز 82 عاماً، تاركاً وراءه مسيرة حافلة أنجز خلالها نحو 300 أغنية بلغت مدتها الإجمالية 25 ساعة، إضافة إلى جلسات طربية سجلها للإذاعات والتلفزيونات الخليجية والعربية. وبعد وفاة من أطلق عليه لقب «سفير الأغنية البحرينية» توالت مناسبات تكريمه والتعريف به وتخليده تقديراً لدوره الرائد في المحافظة على تراث الغناء الشعبي في البحرين. فعلاوة على تدشين كتاب إبراهيم الدوسري المشار إليه آنفاً في حفل بنادي الحالة في 4 ديسمبر 2018 تحت شعار «وقفة وفاء»، أطلق الفنان البحريني الكبير إبراهيم حبيب، الذي عرف زويد عن كثب، مؤلفاً عنه بعنوان «أسطورة الطرب الشعبي»، كما قررت وزارة الثقافة البحرينية في عام 2014 القيام بإجراءات استملاك بيت زويد في المحرق لتحويله بالتعاون مع عائلته إلى متحف يحمل تاريخه وإرثه الفني ويعرض للجمهور مجموعة من مقتنياته، ولا سيما العود الذي ظل يلازمه طوال مسيرته الفنية. وأخيراً قام الفنان البحريني المبدع المسكون بحب التراث المايسترو مبارك نجم النجم في عام 2017 باختيار أغنية «كوكو» الشهيرة لمعالجتها بطريقة أوركسترالية أخاذة، فنجح أيما نجاح كعادته وتم إطلاقها من باريس، في حدث يمكن اختزاله في عبارة: رحلة زويد من حالة «بوماهر» إلى عاصمة النور استغرقت 117 عاماً. * أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين