بعد رحلة طويلة مع المرض رافقته في كثير من مراحلها تحدث أخي عبدالله -بعد أن من الله عليه بالعافية وتماثل للشفاء ولله الحمد- عن تجربته مع المرض والعافية، فكان مما قال: أنا والله أسعد بعد هذا المرض مما قبله، إني أحس بسعادة تفيض من داخلي، وأجمل ما في هذه السعادة أني لا أستجديها من أي مصدر مادي، إنما هي فيض من الروح ونبع من الفؤاد، ثم سألته عن سر هذه السعادة، فقال: يكفي أن هذا المرض أعاد لي الشعور والإحساس بالنعم التي كانت تحيط بي من كل جانب، لقد كنت غارقاً في النعم لكن لم أكن أحس بها، كنت أعتقد كغيري من الناس أنها أشياء عادية، واستحقاقات طبيعية، لأني ولدت عليها، وتفتحت عيوني في هذه الحياة على شهودها فلم أعد أحس بها أو أتلذذ بوجودها، ثم مضى يقول: هل تصدق أنني لم أكن أتصور أن نعمة «الكلام والنطق» بهذا الجمال حتى فقدتها؟، وكأن الله حجبها عني فترة من الزمن ثم أعادها لي حتى أستشعرها وأحس بجمالها! ومن ثم أحمده عليها في الصباح والمساء! وهل يمر بخيالك أن كأساً من الماء أشربه على ظمأ يعدل عندي كل ألوان النعيم والمتعة؟! إنها نعمة من أعظم النعم وألطفها ! ثم ختم حديثه بقوله: قد يبدو لك أن كل ما ذكرته أمر تافه لكنه بات اليوم بالنسبة لي هبة ربانية ومنحة إلهية، كلما تذكرتها سكبت على روحي وكياني فيضاً من الطمأنينة وأضاءت فؤادي بالنور والسلام، لقد بت بعد المرض أستمتع بالتفاصيل الصغيرة جداً، وأغرق فيها حتى استنفذ منها كل أسباب الفرح، يكفيني من هذا المرض أن سعادتي اليوم ملك لي لا يستطيع أحد أن ينتزعها مني إلا من وهبها، لقد بت اليوم أسخر من أولئك الذين يخسرون سعادتهم لأجل حلم لم يتحقق، أو لأجل حفنة من المال ذهبت، أو لأجل سفرة «تكنسلت». إن هؤلاء وأولئك حتى لو فرحوا لحظة فسيُغمون لحظات، ولو ابتسموا دقيقة فسيعبسون ساعات، وما ذاك إلا لأن سعادتهم مستوردة من خارج ذواتهم وأرواحهم. وبعد، فهذا حديث عظة وعبرة، فاضت به الروح وصدقه الشرع والعقل، وهو نداء لكل الذين تلاشت أفراحهم في زحمة الحياة، وحداء لكل الذين أضنتهم المقارنات المادية وأتعستهم الأماني الحالمة: أنِ استشعروا هذه النعم التي تحيط بكم وحسوا بها وتحسسوها، فهي تحيط بكم من كل جانب وتتدلى عليكم من كل اتجاه، ولا تؤجلوا استشعارها والإحساس بها إلى يوم أن تفقدوها. وأول نعمة يجب علينا استشعارها نعمة الإسلام العظيمة، التي جاءتنا بلا كد ولا تعب، (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) وما أكثر ما رأيت في بعض المقاطع عبرات أولئك الذين أسلموا وكيف كانت حياتهم يوم كانوا في الظلمات ثم كيف تبدلت نفوسهم يوم أشرقت أرواحهم بنور الإسلام، إنها لحظات لا يملك الإنسان فيها دمعته، وإن هذا النعيم الذي يتلذذون به وتذرف عيونهم فرحاً به جاءنا بلا كد ولا تعب، ولدنا عليه ولم نعرف غيره، فكيف لا نحس به ونستشعره؟ وثاني هذه النعمة: نعمة العافية، وهي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس رضي الله عنه: «يا عباس يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة»، وفي الحديث الآخر:«لم تؤتوا شيئاً بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فاسألوا الله العافية» إن اللحظة التي يشعر المريض فيها أن صحته عادت إليه وعافيته خالطت جسده، هذه اللحظة لو أحس بها الصحيح ولو مرة واحدة لغمرته السعادة في كل مراحل عمره. وثالث هذه النعم: نعمة الأمن، إذ هو منة الله على عباده التي امتن بها عليهم في كتابه (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) إن كل شعارات الثائرين وهتافات المحتجين تتلاشى كلها وتتحطم عند لحظة من الخوف والرعب، إذ الخوف يعني توقف عجلة الحياة أو الخروج عن مسارها، وكما أن الأمن نعمة عظيمة فهي خطيرة في نفس الوقت؛ لأن الفرد لا يستشعر عظمتها ويعرف قدرها إلا يوم تغاب، وحينها لات ساعة مندم، إن مجرد أن تخرج من بيتك وتغلق باب بيتك على أولادك ثم لا ينتابك شعور ولو لحظة أنهم قد يتعرضون لمكروه إنه معنى وشعور في غاية الجمال والروعة. ورابع هذه النعمة: نعمة الحرية، فهي هبة من الله للبشر، وهي عطاء رباني لبني آدم يوم أن حررهم من كل عبودية سوى عبوديته سبحانه وتعالى التي خلقهم لأجلها ثم استعمرهم في هذه الأرض ليسيحوا فيها ويركبوا فجاجها، فهي نعمة تستحق الشكر والامتنان لواهبها، ومادام أن هذه الحرية هبة من الله فلا يجوز لأحد من الناس أن يسلبها منهم إلا بحقها، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يختار السجن على الحرية، وكل الفلسفات الثورية التي تقدس السجن وتمجده في أدبياتها إنما هي خارجة عن قانون الفطرة ومتعالية عليه، فأكمل الناس إيماناً نبينا صلى الله عليه وسلم قال عن نبي الله يوسف عليه السلام لما عرض عليه رسول الملك أن يخرج من السجن فاختار البقاء فيه حتى ينكشف أمر المتآمرين عليه «ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة..» قال صلى الله عليه وسلم معلقاً على ذلك:«لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي». والمقصود من هذا ليس حصر هذه النعم ولا تعدادها فنعم الله علينا تأبى على الحصر والعد «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» وإنما هي دعوة إلى استشعار هذه النعم التي نتقلب فيها وتعاهد شكرها، إذ إن الشكر سبب بقاء النعم واستدامتها والكفر سبب زوال النعم واضمحلالها «لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد». ولا تنفض عرى هذه النعم إلا حينما يغاب عنا استشعارها ويموت فينا الإحساس بها، وإذا كان الفاروق رضي الله عنه يقول في الحكمة الخالدة: «إنما تنفض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية»، ويعني بها رضي الله عنه: التأكيد على خطورة غياب وموت الإحساس بالنعمة واستشعارها، لأن من ولد في الإسلام قد لايعرف حجم النعمة التي هو فيها فيزهد فيها ويكفرها، وهكذا في جميع النعم، فنحن نقول نسجاً على رسم حكمته رضي الله عنه: إنما تنفض عرى العافية عروة عروة إذا نشأ في العافية من لا يعرف المرض، وإنما ينفض عرى الأمن عروة عروة إذا نشأ في الأمن من لا يعرف الخوف وهكذا في سائر النعم.. فاللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين وإليك منيبين. * كاتب سعودي