نقضت الناقدة كاميليا عبدالفتاح نظرية عميد الأدب العربي طه حسين في درعيات أبي العلاء المعرّي، واستعرضت في ورقتها التي قدمتها بأولى الفعاليات الثقافية لسوق عكاظ عن «درعيات» أبي العلاء المعري، الأساطير التي استطاع المعري أن يخلقها، وأن يبني من خلالها معادلاً فنياً لذاته. وفي ورقتها، خالفت الناقدة رأي عميد الشعر العربي الدكتور طه حسين الذي لم ير في الدرعيات إلا حرصاً من أبي العلاء المعري على وصف الدرع باعتباره قادراً على الوصف على رغم فقدانه البصر، بينما ترى عبدالفتاح أنها «أسطورة رمزية» خلقها المعري فنياً من أجل التدرع والتصدي للمجتمع وعوامل الاغتراب التي عاشها نتيجة كف البصر وعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية لحياته، بكل ما تتصف به هذه الذات وهذه الحياة من خصوصية، وتفرد ثري موح، ولفتت إلى أن شعر المعري تفرد بالطرح الفني، وبما يحمل من دلالات شديدة الاتصال بالعالم النفسي والفكري للمعري. وعدّت «الدرعيات» عالماً فنياً قائماً بذاته، و«أسطورة الشاعر» التي استطاع نحتها من تجربته الحياتية المميزة، ومن رؤيته الفكرية المتفردة للوجود الإنساني، بما يظهر شخصانية أبي العلاء المعري المبدعة، فضلاً عن عزلته الفكرية، وعدم قدرة الكثير من معاصريه على فهمه واتهامهم له بالزندقة، ليحتمي بالدرع وقاية ونجاة وليمرر «مونولج داخلي» من خلال «الدرعيات». وقالت عنه «تصدى للغة لا باعتبارها مفردة، وإنما باعتبارها شخوصاً حية، إذ رأى ذاته واستطاع أن يعبر عن نفسه من خلال اللغة واتخذها (شرنقة) وعالماً ترميزياً، إضافة إلى لجوئه للمهجور الوحشي من اللغة، التي تحوج قارئها إلى القاموس أو المعجم، والتزامه العزلة لمدة 40 عاماً منذ وفاة والدته وهو في سن الأربعين حتى وفاته في الثمانين، والزهد في الأكل والمشرب والعيش بقسوة وصرامة. وذهبت إلى أن التزام المعري في القافية وحروف الروي بما لا يلزم صورة فنية منسجمة مع حياته وتشبهها، والتزامه بالمهجور الوحشي من اللغة نوع من الانعكاس أو الاسقاط على ذاته. من جانبه، تناول الدكتور نبيل الحيدري في ورقة نقدية حس التسامح عند أبي العلاء المعري، مشيراً إلى أن مكونات شخصية المعري ومنها عدم تعصبه وشدة ذكائه وفرط ذاكرته وتوقّد خواطره، إذ نظم الشعر وهو في سن 11 عاماً، كما درس الأدب والتاريخ والفقه والأديان الإبراهيمية الثلاثة والمجوسية والهندية والمذاهب المختلفة، وصاغها في أدبه وشعره ورسائله وأفكاره، ولفت إلى أن المعري عُدَّ فيلسوفاً حكيما مفكرا ناقدا مجدداً، مستعرضاً قصة انتقاله من الشام إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية (398ه) إثر محنته مع أمير حلب واتهامه بالزندقة بسبب آرائه حول الدين والتشكيك بما يظن من حقائق. ويرى أن المعري جمع بين الأدب والفلسفة والتراث والجدل والعلوم وعلم النجوم ما أبهر عظماء عصره، فأقروا له بالنبوغ والتميز والإبداع، ما أنتج طرحاً مختلفاً عده البعض تزندقاً بينما كانت أسئلة وجودية كبرى، ولذا حاز لقب «أعجوبة الدهر»، إثر امتحانه ببغداد مدينة العلم ودار الخلافة وحاضرة الإسلام ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقى الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين، وعدّ حضوره فيها سبباً في الكثير من الأحداث والمنازلات الأدبية والدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية في فضاء مأهول بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الدينية والتيارات الفكرية. وذهب إلى أن المعري كان بصيراً بين عميان، تمايز عنهم بحكمة وفلسفة ونقد، فخرق الحجب وتجاوز التابو، ووصل إلى معدن المعرفة وأساسها العقل، ليقول «لا إمام سوى العقل»، موصيا أن يكتب على قبره «هذا جناه أبي على وما جنيت على أحد»، لتكون وصيته خالدة للأجيال مثيرة جدلا مستمرا كما أثاره في حياته. وفتح الناقد الدكتور عبدالله إبراهيم الزهراني رسالة الغفران ليؤكد أن من قرأها وجد فيها الخيال البعيد، والأدب الجم الخصب، و«غذاء للعقل والقلب»، وأضاف أن ما يلفت النظر تصنيف أبي العلاء لشعراء وكتّاب، وتناوله الجن وبعض الحيوانات، وفلسفته في التصنيف، إذ عرض للشعراء إلى العصر العباسي، ولشعراء الجاهلية والمخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام، وفي مقدمتهم لبيد بن ربيعة، وحسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، والشماخ بن ضرار، وحميد بن ثور، والخنساء، والحطيئة، وتميم بن مقبل، وعمرو بن أحمد وغيرهم، ووثق بعض شعراء العصر الأموي فعرض للأخطل التغلبي، بينما عرض لبعض شعراء العصري العباسي مثل ابن بشار، وأبي نواس، وابن الرومي، وأبي تمام، والمتنبي، ولفت إلى أن المعري صنف الشعراء تصنيفاً مثيراً بناء على خياله الجميل اللافت. وتساءل الزهراني «على أي فلسفة أو رؤية قام بهذا التصنيف المثير العجائبي؟ هل كان اعتباطياً أم مبنياً على دليل؟ وما هو ذلك الدليل؟ هل هو خارجي من حكايات أو قصص سابق بنى عليها تلك الرؤية؟ أم أنه نابع من نصوص الشاعر نفسه؟»، ويرى أنه قرأ شعر شعراء الجاهلية، الذين وضع بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، وفق تعليله الفلسفي انطلاقاً من رؤية دينية للحكم على ما يسمى ب«أهل الفترة»، فمن نص على أنه كافر فهو كافر، وأما من لم ينص عليهم فحكمهم لله ويمتحنون، مع اعتبار أن بعضهم نصارى أو لديهم بقايا من دين إبراهيم عليه السلام -أي الحنيفية-. واستعرض في ورقته أمثلة من الحوارات بين المعري وبعض الشعراء ممن أدخلهم جنة الغفران، التي يرى أن التعليل المنطقي لأسباب دخولهم الجنة مبني على رؤية ارتأها المعري وأوردها بأسلوب عجائبي أخاذ يدهش القارئ، وعلى عمق معرفي، وتنقيب وراء العلة الموجبة لدخول الجنة، وذهب إلى أن المعري حبك في تناوله لجحيم الغفران المشاهد حبكاً أبان عن عبقرية فذة وثراء معرفي. وتتبعت الناقدة الدكتورة بسمة عروس، أبا العلاء المعري بين الفكر والوجدان وأكدت أنه فيلسوف الشعراء.. وشاعر الفلاسفة، كونه أدخل في الشعر الشعر الفلسفي، وتجلى في اللزوميات وهو شعر –في رأي عميد الشعر العربي– يشرح الحقائق الفلسفية، وأكدت أن الشعر الفلسفي عند أبي العلاء لا يفهم بمعنى صب المضمون الفلسفي والأسئلة المتعلقة بالماوراء والوجود والعدم وغيرها في الشعر بل أبعد من ذلك، لأنه يغدو سؤالاً عن اللغة التي تحاول استيعاب كل ذلك، وأضافت بعبارة أوضح «نقول إن أبا العلاء من خلال طرحه جملة من الأسئلة التي تترجم حيرته حول مسائل شتى يحاول أن يعود باللغة إلى وظيفتها الأصلية وهي وظيفة تمثيل الأشياء تمثيلاً موفياً إلى عملية «مفهمتها» وتشكيل المتصورات عنها». وبهذا يظهر أنه لم يكن المتنبي وحده مالئ الدنيا وشاغل الناس، فأبو العلاء المعري الذي كتب عن المتنبي «معجز أحمد» أبلغ أثراً وأكثر جدلاً بحكم بُعد غور شخصيته وسعة اطلاعه على المذاهب والأديان وقسوته مع نفسه إذ عدّ نفسه رهين المحبسين (العمى والبيت) وأضاف لها «وكون النفس في جسم خبيث» وكان نباتياً في طعامه، ليحضر بعد ما يزيد على 10 قرون مجدداً في جزيرة العرب ويدخل «عكاظ» مساء أمس الأول ليعيد السوق العربي فتح رسالة غفرانه وليشعل أبو العلاء المعري عشايا النقد بين من يراه فيلسوف الشعراء ومن يصنفه شاعر الفلاسفة.