اذا كان ابو الطيب المتنبي متقدماً على أبي العلاء المعري عربياً، ومسجلاً على الدوام ما يؤكد انه الشخصية الشعرية والثقافية الأولى في تراثنا القديم، فان أبا العلاء المعري يسجل في الخارج فتوحات لم يسجلها لا المتنبي ولا ديوانه الفذ "معجز احمد"، وهو النعت الذي أطلقه عليه المعري، وقد كان مفتوناً أشد الافتنان بصاحبه شاعر العرب الأكبر. ولكن المعري يجد في الغرب، على الخصوص، اهتماماً متزايداً لا يجده المتنبي لأسباب كثيرة. فهو على الدوام موضوع دراسات وحلقات دراسية وترجمات لأعماله كان آخرها ترجمة "لزومياته" الى اللغة الفرنسية على يد الباحثين باتريك مكربنة وهوا هوي فونغ. اذ يرى هذان الباحثان ان الخوض في فكر المعري وشعره إشكالي، لأنه ذهب بفلسفته أبعد من معاصريه، واستبق الحداثة بقرون، وبقي مع ضعف صاحبه الجسدي واقفاً امامنا حتى اليوم يؤرق ويسائل. وتأتي ترجمة "لزومياته" الى الفرنسية كدعوة الى التمحص في فكر هذا المبدع وفي إشكالية الحداثة. وقد خصصت احدى أعداد مجلة "اللوموند ديبلون تيك" وهي مجلة تعنى بجوانب الدبلوماسية والسياسية قبل أي شيء آخر، صفحتين كبيرتين لأبي العلاء المعري تحت عنوان "هل فضح سر المعري؟" فيه تقدير كبير لفيلسوف المعرة. وفي هذا المقال يعتبر الباحثان اللذان نقلا "اللزوميات" الى اللغة الفرنسية ان المعري شخصية استثنائية في التاريخ الانساني والفلسفي. فهو على حد تعبيرهما "نبيل المقصد، متعدد النواحي، وقوي الشخصية". وأضافا ان الاعجاب بأدب المعري يزداد كلما تحرر العقل وسمت المدارك وتهذبت النفس. وقد جمع المعري في شخصيته بالإضافة إلى نبوغه الفطري، الاخلاص في خدمة (الحقيقة، والقوة في مهاجمة الفساد، فتمكن من فتح أفق جديد يستعلي على كل ما سبقه. واذا كان القدماء قد وجدوا في المعري فكراً بعيد الغور، واسع الآفاق، متشعب الأغراض، فان ابناء هذا العصر لم يدركوا مدى أهمية فكر هذا العبقري بما يخص مستقبلنا. ففي وقت يتخبط فيه المجتمع المعاصر بالمذاهب المتحجرة والمفاهيم العقلانية الغثة، يصعب على الفكر العربي ان يبتكر طريقاً جديداً بعيداً عن الأصوليات وعن الليبرالية الانتفاعية في آن. ويصعب على هذا الفكر ان يشق سبيلاً ينبثق عن تراثنا العربي، وينفذ إلى آفاق جديدة يرسخ فيها سلطان العقل، بحيث ان رفض الدوغمائية والمذهبية لن ينتهي بنسبية اخلاقية ومادية شرهة، بل تصبح الحرية والمسؤولية الشخصية هما الأصلان لاعتناق القيم الانسانية الكلية. وفي رأي هذين الباحثين الفرنسيين، يتضمن أدب المعري أغلبية المعطيات الفكرية المطلوبة لحل هذه المعضلة شبه المستحيلة. ولد أبو العلاء المعري سنة 973 ميلادية. وفي الرابعة من عمره أصيب بداء الجدري وكف بصره. فكرس حياته للدرس والعلم. وبعدما اختبر الحياة وتجاوز الثلاثين، انصرف عن زخرف الدنيا الى الأدب والتفكير، واعتزل في بيته بعيداً عن الملذات (كان نباتياً) يصوم ويؤلف ويدرس. ولبث تسعاً وأربعين سنة "رهين المحبسين"، أي بيته والبصر، مترقباً الموت حتى وفاته سنة 1057، وقد ترك تصانيف متعددة. وكتابه الرئيسي الذي ألفه خلال عزلته هو ديوانه "لزوم ما لا يلزم" الذي يعرف باللزوميات. ويرى هذان الباحثان ان الصعوبة الكبرى التي تفرضها "اللزوميات" هي بلا شك ما يقدمه فكر الشاعر من اضطراب وتناقض، على الأقل ظاهرياً. فالمعري في بعض المقاطع يلتزم جانب العقل، في حين انه في مقاطع أخرى يظهر عجزه وشلله ويسلم أمره الى رحمة الله. وامام هذه التناقضات المتعددة، لجأ بعض الباحثين الى التأويل معتمدين مقاطع من اللزوميات دون أخرى. وبذلك أصبح المعري ارتيابياً بنظر البعض، وعقلانياً بنظر البعض الآخر. ولا ننسى ان بعض المقاطع المنعزلة قد حولته تارة الى اسماعيلي او صوفي برهاني! لكن المعري ذاته يحذرنا بأن تجزئة الشعر "تغير معناه" وبذلك لا يكفي لشرح معنى يفسر فقط بعض المقاطع المتطابقة فيما بينها، بل علينا ان نقدم ايضاً تفسيراً لكل المقاطع حتى تلك المتناقضة. اذ بحسب رأي باسكال، وهو مفكر فرنسي تناقضي، "فان فكر كل مؤلف له معنى يوافق جميع مقاطع كتاباته، والا فانه سيكون من دون معنى"! استناداً الى كل ذلك، لا يكون المعري روحاً شاردة وكئيبة، او مجرد ناظم شعر بدون تعمق فكري، كما يدعي بعض النقاد. بل يمكن تقديم تفسير متماسك لكل ما قاله. يجب ايضاً الاشارة الى انه لا يمكن تفسير التناقضات القائمة في اللزوميات بذريعة "التقية"، اي اخفاء الآراء للتخلص من الاضطهاد كما ظن بعض الباحثين، بدليل ان الادعاءات الأكثر عرضة للاتهام بالزندقة هي الأصرح والأوضح عنده. يلتزم المعري الصيغ المتناقضة والمجزأة والمتعددة المعاني لعرض المحتوى المتناقض لفكره. واذا كان المعري يقول متعجباً في احد أبيات "اللزوميات": "عجب للطبيب يلحد في الخالق من بعد درسه التشريحا"، فانه رغم حيرته هذه يؤمن بالله. فالله خالق حكيم، وهو يبرئ نفسه عن "معشر نفاة". فالايمان قيمة غير مشروطة بقدر ماهو خيار نفيس يمتثل له مهما كلف الأمر: "فلتشهد الساعات والأنفاس لي أني برئت من الغوي الجاحد". وهذا الايمان لا ينفصل عن المخافة: "أخاف من الله العقوبة آجلاً وأزعم ان الأمر في يد واحد". وهكذا فان يقينه يشبه "يقين العقل العملي" عند كانت، او "يقين القلب" عند باسكال. هذا اليقين لا ينتج من برهان ولا اثبات ولا حدس، بل يتولد من مراهنة. والله عنده موجود، ولكنه لا يظهر، وكما يرد في القرآن الكريم انه "الظاهر والباطن"، حيث يقول المعري انه "محتجب باد". ويؤكد المعري، من جهة ثانية، وبشكل قاطع، ان العقل ليس له قدرة على الوصول الى اليقين. فكما ان الله موجود ولا يظهر، فالحقيقة ايضاً موجودة ولكنها تبقى متعذرة المنال، وبالتالي فان كل الذين يزعمون ان لهم قدرة على اقتناص المجهول والكشف عن الأمور الغيبية عن طريق العقل هم خداعون. طبعاً لا يدرك العقل كشف المسائل الجوهرية. لكن هذا لا يمنع المعري من ان يبحث عن الحقيقة حتى الإنهاك. ومن فرط البحث والمثابرة، رغم الاخفاقات المتكررة، تشعر النفس ان هناك غاية لا يمكن إدراكها، ولكن يجب دائماً السعي إليها، ألا وهي الحق! والايمان عنده ينجم عن الإقرار بالعجز مقدار ما يسفر عن الاعتراف بأنه ليس بين الانسان والعقل مقياس مشترك. لكن هذا لا يعني ان العقل يستسلم للاعتقاد، بل بالعكس يحتاج الايمان الى تمييز العقل ويستند الى حدة إدراكه وجلاء بصيرته (ومن هنا الرفض القاطع للمعري ان ينتشي ويستغرق عقله بالسكر والثمالة) لأن بصيرة العقل هي التي ترى ان هناك صواباً يتجاوز قدرة العقل. فالعقل هو وحده الذي يعي ما وراء العقل، حيث لا توجد حدود قاطعة بين المعرفة والاتقاءة، وإنما عقل يقاوم الايمان، ودائماً ينتصر الايمان على العقل! ويرى الباحثان اخيراً ان فكر المعري يتبلور شيئاً فشيئاً شرط ان يؤخذ النص بجدية، من دون حذف أو تشويه بتأويلات رمزية أو باطنية. فاذا اتبع هذا المنهج، تبين في النهاية ان فكر المعري يشكل قفزة في الفكر العربي، ترفع بعيداً عن التقليد وتخطي الفلسفة الغربية الحديثة قبل بلورتها بمئات الأعوام، إذ "يمكن ان نثبت ان فكر المعري يحتوي على رؤية عقلانية انتقادية، وتصور للارتقاء الديني، ونظرية للذات خطت الى الفكر الانتقادي لكانط، والتقوى المأساوية لباسكال، والوجودية اليائسة لكير كيغارد. فهل هذا كاف لنثبت ان فكر الحداثة قد بدأ في الشرق"؟ ولا يشك الباحثان في ان "اللزوميات" لا تزال احد الأعمال المؤسسة للفكر العربي والاسلامي الحديث!